ظفر المتنبي بما لم يظفر به سواه من الشعراء العرب قديماً وحديثاً، فقد كتب الباحثون عنه من ما لا يقل عن ألفي كتاب، وهو رقم لم يسجله أحد من الأدباء والشعراء العرب. ولكنه ظفر أخيراً بكتاب لم يكتب أحد كتاباً من نوعه قبل اليوم، وهو كتاب يتناول خريطة الطرق التي سلكها في حياته بدءاً من أول سفرة له خارج الكوفة سنة 315 هجرية حتى مقتله قرب بغداد عام 354 هجرية وهو عائد من رحلة إلى فارس، الكتاب عنوانه «أطلس المتنبي » وقد كتبه الأديب والوزير البحريني السابق يوسف الشيراوي وأرفقه بخرائط جغرافية تبين المواقع والمدن والأرياف والطرق التي سلكها المتنبي خلال عمره القصير نسبياً. والمعروف ان المتنبي كان دائم التنقل في محيط جغرافي يشمل مبدئياً المشرق العربي: العراق وبلاد الشام ومنها لبنان وفلسطين. ولكنه زار فارس في رحلته الأخيرة التي قُتل عند عودته منها. كما انه أقام مدة ست سنوات في الفسطاط بمصر. فهو إذن «على سفر » على الدوام، وليس فقط «على قلق » كما يقول في بيت مشهور له.
كتاب الشيراوي «أطلس المتنبي » كتاب جليل لا في بابه، إذ ان موضوعه لم يُطرق من قبل في الدراسات حول المتنبي، بل في هذه الدراسات حول المتنبي أيضاً. ذلك ان الكتاب يعرض لجوانب من سيرة أبي الطيب ويدلي برأي في هذه الجوانب، ويبدو الشيراوي في كتابه لا مجرد عاشق لابي الطيب وحسب، بل باحث مثقف عميق الاطلاع في ما يكتب حوله.
ومن الجدير بالذكر انه متزوج من ابنة الشاعر البحريني ابراهيم العريض، الذي كان اصدر قبل حوالي ثلث قرن من اليوم كتابا مهما عن المتنبي عنوانه «فن المتنبي بعد الف عام » ، وفيه يخطو العريض خطوة اخرى عقب خطوة الباحث المصري محمود محمد شاكر عن المتنبي، فإذا كان محمود شاكر قد أثبت أن المتنبي كان من عائلة من أكابر العلويين في الكوفة، فإن العريض يذهب الى اكثر من ذلك فيقول ان الامام المهدي في اثناء غيبته الصغرى تزوج في الكوفة، وانجب المتنبي وماتت امه، فرعته جدته وكانت الوحيدة التي تعرف سره.
مساهمة قيمة
«اطلس المتنبي » يشكل مساهمة عظيمة القيمة في مجال الدراسات عن حياة المتنبي وشعره، لانه خلاصة دراسة عميقة لحياة الشاعر وتأمل في شعره، يقول الشيراوي: انه لم يعرف ولم يسمع عن شاعر عربي تنقل في حياته كما تنقل المتنبي. ويتساءل: هل يعود هذا التنقل الى نفسية الشاعر القلقة الطموحة ام انها تعكس ذلك العصر المضطرب بالفتن والاحداث التي اثرت في نفسيته وطموحه وتصوره للتاريخ؟
هذا السؤال ألح على كثيرين من عشاق المتنبي، ومنهم المغفور له الاديب السوداني الطيب صالح المحب لشعر المتنبي والمهتم بوقائع حياته الماضية. في المقدمة التي وضعها الطبيب صالح لكتاب الشيراوي، يستشهد بأبيات للمتنبي من وحي اسفاره وتنقلاته.
من هذه الأبيات:
يقولون لي ما أنت في كل بلدة
وما تبتغي؟ ما ابتغي جل أن يسمى
ومنها:
وإني لنجم تهتدي بي صحبتي
إذا حال من دون النجوم سحاب
غني عن الأوطان لا يستفزني
إلى بلد سافرت عنه إياب
وعن ذملان العيس ان سامحت به
والا ففي أكوارهن عقاب
ومنها:
صحبت في الفلوات الوحش منفردا
حتى تعجب مني الثور والأكم
ويتساءل: هل هذه المعاني نابعة من الموهبة الشعرية الفريدة للشاعر وحسب، أم انها أصداء لحياة قلقة بالفعل، وعالم عربي مضطرب مقطع الأوصال بموج بالقلاقل والفتن؟
إدراك أعمق
على ان كتاب الشيراوي يقرب بالفعل من ادراك أعمق لحياة المتنبي وعالمه الشعري، وذلك يرجع إلى الخرائط التي ضمنها الشيراوي كتابه وربط الجغرافيا بها ارتباطا وثيقا بالشعر. وهو بذلك فتح آفاقا رحبة في خيال القارئ المهتم بشعر المتنبي. أصبحت الخرائط بما فيها من الأمكنة التي زارها الشاعر او عاش فيها، كأنها امتداد للقصائد.
ويقول الطبيب صالح: وربما ادركت لأول مرة، رغم كثرة نظري في ديوان المتنبي، كم هي شاسعة ومترامية تلك المسافات التي قطعها ذلك الإنسان العجيب في حياته القصيرة. لابد انه قطع آلاف الأميال
رائحاً غادياً، وكأنه، حقاً، كما وصف نفسه:
على قلقٍ كأن الريح تحتي
أوجهها جنوباً أو شمالاً
وكأنه، حقاً، كما قال:
غنيُّ عن الأوطان لا يستفزّني
إلى بلد سافرتُ عنه إيابٌُ
ولكن طريق يوسف الشيراوي نفسه لم تكن معبدة أو ميسرة على الدوام في ما ندب نفسه لتحقيقه. ذلك ان ثمة صعوبة نشأت من الجغرافيا نفسها، جغرافيا المدن التي زارها أو مر بها أبو الطيب، فهذه المدن والحواضر والعواصم الإسلامية العربية: من شيراز حتى الفسطاط، ومن حلب حتى الكوفة وطبرية، معروفة. ولكن المتنبي عدد مواقع عجز الباحث عن التعرف عليها بالرغم من اعتماده على «لسان العرب » و«معجم البلدان » .
ويضم «اطلس المتنبي » للشيراوي فصلا فائق الأهمية والطرافة في آن، فكما رسم الشيراوي للمتنبي خطة سيره، أو خريطة طريقه، بلغتنا المعاصرة، رسم له الفضاء الخارجي الذي نظر إليه. يحتوي «الأطلس » على فصل عنوانه «المتنبي والنجوم » يبدأ بالقول: «لم يترك المتنبي بصماته على عواصم وحواضر الشرق العربي الاسلامي من شيراز الى ديار بكر والشام ومصر والجزيرة العربية والعراق وحسب، بل رفع رأسه الى السماء أيضاً، فتحدث عن الكواكب والنجوم حديث العالم العارف بمواقعها وأساطيرها، والفلكي العليم بأوقاتها.
تحدث المتنبي في شعره عن زحل والسماكين والفرقدين النيرين اللذين يدوران حول نجمة القطب لا يغربان عنها، وعن نجم سهيل وعن صورة الدب الأكبر في السماء، وعن الجوزاء والثريا، والسهى وهي نجمة صغيرة ملتصقة بالنجمة الوسطى من بنات نعش، وكان العرب يختبرون قوة النظر برؤيتها.
وهذا الفصل المتصل بعلم الفلك، المضاف إلى خريطة طريق المتنبي، يجعل من كتاب «أطلس المتنبي » ليوسف الشيراوي اضافة ثمينة الى الألفي كتاب التي تؤلف مكتبة المتنبي العربية التي تبقى أجلّ المكتبات وأغناها.
http://www.kaica.org.sa/arabicobservatory/56672