تعد النهاية (الخاتمة) Closure الركن الأهم في تشكيل بنية النص الإبداعي ولها وهجها ودورها في تحديد مسار العمل واتجاهه، ومع أن دراسة النهايات في الأعمال الإبداعية قد استُحضِرت في دراسات تطبيقية قليلة إلا أن الجانب التنظيري قد أهمل تماما في فضاءات النقد العربي ولم تحضر النهايات في إطار التنظير النقدي الجاد، وتجدر الإشارة إلى أن هناك دراسات غربية قد استثمرت هذا المفهوم وكشفت كثيراً من ملامح النهايات بصورة عامة في كتاب فرانك كيرمودFrank Kermode الذي بعنوان (معنى النهاية: دراسات في نظرية السرد) The Sense of an Ending: Studies in the Theory of Fiction الصادر في 1967م في الشعر وجمالياته مثل الدراسة النقدية التي لبربارا هيرنستين سميث Barbara Herrnstein Smith التي بعنوان (الخاتمة الشعرية: دراسة في كيفية إنهاء القصائد الشعرية) Poetic Closure: A Study of How poems End المنشور عام 1968م وقد ركز كتابها على النهايات الشعرية التي اختبرتها في نصوص أغلبها كلاسيكية، أما الروايات فتكون نهاياتها طويلة ومعقدة التفاصيل في أحايين كثيرة لذلك فقد درس بعض الباحثين النهايات الروائية ونقلوا مفاهيم سميث إلى قراءاتهم للنهاية الروائية ومن ذلك كتاب ماريانا تورقوفينيك Mariana Torgovnick الذي بعنوان (الخاتمة في الرواية) Closure in the Novelوصدر في عام 1981م، وغير ذلك من الإصدارات والبحوث الأكاديمية.
ليس غريبا أن تعد النهاية أو الخاتمة الركن الأسمى في العمل الإبداعي، لنأخذ العرض السينمائي بوصفه مثالاً على أهمية النهايات، فالنهاية (الفيلمية) تتبقى غالباً في ذاكرتنا ليس لكونها آخر المشاهد التي نختزلها فحسب بل لكونها تختصر لنا ذلك العرض وتلخصه، من الصعب جداً أن نستدعي كامل العمل بعد اكتمال القراءة لكنها تستدعي اللحظات والمشاهد الدرامية فالبدايات والنهايات هما ما يتبقى في الذاكرة وتشكل اتجاهنا وميولنا تجاه العمل الروائي.
تشبه النهايات الأمثال التي تنتسب إلى حكايات طويلة قد لا ينتظر المتلقي معرفتها ولكنه يميل إلى اختزال معرفتها في تلك الجملة القصيرة، وتعرف باربارا سميث النهاية في الشعر بكونها إشارة رقيقة إلى الانتهاء، إذ تبدو بوصفها صورة مجازية تقترح الانتهاء، أو لنقل إشارة إلى الخروج من العمل وهي النقطة الأخيرة التي يقول فيها المؤلف ما يريد تلخيصه وإيجازه.
وتتخذ نهاية الرواية المنحى نفسه إذ هي تعبير إبداعي مكثف على بعد القراءة الزمني فليس من الممكن الحديث عن لوحة فنية لها خاتمة، إذ تعد تغييرا لبنية الاستمرارية في العمل الإبداعي شعراً أونثراً، وذلك بخلق الانقطاع الذي يجسد غياب الاستمرارية الحدث الأكثر نجاحاً في السرد، فالفشل في تحقيق الاستمرار يخلق في المتلقي أن لا يتوقع شيئاً.
وتتجلى أهميتها في محاولة قراءتنا الثانية لرواية ما بعد معرفتنا نهايتها في كوننا نسعى جادين إلى التعرف على العلامات والطرق التي أوصلتنا إلى تلك النهاية التي رسخت في أذهاننا فيحاول المتلقي أن يكتشف من خلال تلك القراءة كيف دارت الأحداث حتى وصلت إلى آخر العمل واكتماله. إن محاولتنا تأويل عمل إبداعي سواء أكان شعراً أم سرداً يفترض منا أن ننتظر حتى نهاية العمل واكتماله، وفي حال تركنا ذلك فسيبدو تأويلنا ناقصاً وتفسيرنا مضطرباً.
إن تجربة القراء مع النهايات تعتمد على تأثير تأويلهم الشخصي للنصوص، وفي حال كون الخاتمة ضعيفة فإن على القراء مع اختلاف تأويلاتهم أن يكونوا طموحين في تجارب تأويلهم لها. ولعل المتعة التي تجلبها لنا النهايات الروائية إحدى أبرز مميزات النهايات التي تقدمها لنا السرديات لتلبية وإشباع فضولنا، هذا الفضول يراه فوستر مثيراً للسؤال الإشكالي التالي عند تلقينا لأي سرد: وماذا يحدث بعد ذلك؟ وليس غريباً أن نصف قارئ السرد بكونه نسخة جديدة من شهريار زوج شهرزاد في (ألف ليلة وليلة) وهو متلق يتطلع إلى إجابة سؤاله الفضولي: وماذا سيحدث لاحقاً، لكن النهايات تنسج ومن ثم تفك نسيج النص.
لا تعني كلمة نهاية في الرواية آخر صفحاتها لكنها المقطع الذي يجيب على هدف القراءة والغرض منها، إنها تعني الخط النهائي في اكتمال السرد في الأعمال الروائية الطويلة، ولذا تعد النهايات أكثر أهمية لكونها مهمة وفاعلة للمكونات السردية الأخرى في العمل بوصفها أسباباً حقيقية لها.
ولما كانت هذه النهايات في مجموعها تعتمد على بعد خطي إذ تتقدم أحداث السرد التقليدية منذ البداية فقد أدرك كيرمود استمرار النماذج التقليدية في السرد بما فيها الكتاب المقدس النموذج الأهم والمعتاد تاريخيا إذ بدأ بلفظ البداية وانتهى بمنظور النهاية فخضع لمنطق النهاية التي تتناسب مع البداية، كما أظهر كيرمود شكوكه حول تلك البدايات، وانساقت الإنسانية للتصور الخطي نفسه الخاضع لمنطق الولادة والفناء، ويتبع ذلك عند والاس مارتن الرواية الواقعية إذ تبقى أفعال الشخصيات فيها مثلنا خاضعة لافتراضات السبب والأصل والنهاية، وإذا أراد الروائي أن يكشف خضوعنا لذلك الزيف، فإن القراء لا يتقبلون أطروحته وسيفرضون التصور التقليدي للبدايات والنهايات والغايات والنتائج للنصوص التي تفكك هذا التصور.
وقد تم تفكيك خطية النص عملياً بظهور مصطلح النص الحديث الفائق أو المتشعب أو المترابط hypertext على ما اصطلح علماء الإنسانيات بتعريفه بالنص الذي لا يعتمد خطاً أفقياً ولا يخضع لبداية أو نهاية في إنتاجه، ولا يعتمد الشكل التقليدي للنص، إنه نمط مخصص من قواعد المعلومات تتجلى عبر نص يرتكن إلى روابط تفضي إلى نصوص عدة، لا يمكن هنا أن نقرر بداية للنص أو نستند إلى نهاية بل تصبح لا نهائية النص في الشكل والتأويل وغياب المركز إحدى أبرز ملامحه، ومن الجدير أن نشير إلى تيد نيلسون Ted Nelson الذي اجترح المصطلح ومنحه الحياة، إذ كان ذلك في عام 1965م تقريباً، ولعل كتاب نيلسون المعنون Literary Machinesالذي نُشر في أوائل الثمانينيات الميلادية يُعد أول كتاب نشر في هذا الحقل ويكرس لمصطلحيه المعروفين:hypertext وhypermedia، ويمكن وصف المصطلح الأخير بكونه مسانداً للنص الفائق، لكنه يُفضي إلى صور وفيديو وأصوات تُضيف إلى النص الأساس، وقد تبعت هذين المصطلحين مصطلحات عدة وظفت من أجل التكريس لبيئة النص الرقمي وقواعد تلقيه.
ومع ذلك فقد وجهت نقدات قوية إلى النهايات الروائية إذ يراها هيلس ميلر J. Hillis Miller مشكلة نقدية سواء في نقد عمل واحد أو أعمال روائية محددة في فترة زمنية مختلفة، ويعود السبب في ذلك إلى كونها تحمل أزمة تشخيص السرد نفسه ومن ثم تؤدي مثل هذه الدراسات إن كانت دقيقة إلى تواز ظاهر في المنتج الإبداعي عامة ما يشي بالعجز عن إظهار مجالات إبداعية نقدية.
تؤكد الروائية الإنجليزية جورج إليوت (1880م) على كون النهايات هي النقطة الأضعف لدى معظم المؤلفين، لكن ذلك قد يخضع للفترة الزمنية التي يعيش فيها المؤلف، فعلى سبيل المثال كانت نهايات الرواية في العصر الفيكتوري صعبة ومزعجة للروائيين والروائيات الذين كانوا يخضعون لسطوة دور النشر والقراء إذ يميل هؤلاء إلى النهاية السعيدة في الأعمال الروائية، وهناك النهايات التي تعتمد على الصدفة والنهايات المقنعة للقارئ.
لذلك فمن الصعب أن نلم بأنواع النهايات فهناك نهايات تعتمد على دور القارئ التأويلي الذي ينطلق مع نهايات مفتوحة ويقيد بأخرى مغلقة، وهناك تصنيف يعتمد مدى النجاح أو الإخفاق فالنهايات المثالية وهي التي يطلق عليها النهاية الماهرة أو الناجحة وهي النهايات التي تعطي القراء الإحساس الذي يؤكد على أن النص قد تم تلقيه بكامله، تمكنه هذه النهايات من الإعلام بتعريف منطقية العمل وضبطه داخل عملية التعلق بالماضي عوضاً عن التصور الضروري لروتينية نماذج التعلق بالماضي، إلى جانب ذلك فإن النهايات تكمل دائرة التلميحات وأوهام الحياة. النهايات الفاشلة يمكن وصفها ببساطة أنها تلك النهايات التي تكون أسبابها عكس أسباب نجاح النهايات القوية والمثالية.
ويرى ويليام ثيكستون أن هناك في الرواية الغربية الحديثة ثلاثة أعمال حظيت نهاياتها برؤية وتصور مثاليين وهي روايات Howards End لأدوارد مورغان وThe Rainbow لدي اتش لورنس وUlysseلجيمس جويس، وتتفق الروايات الثلاث في الاعتماد على نقطة واحدة وذلك باستلهام نهج سيرذاتي في نهاياتها، ثم تعكس محاولات لتعبر من إلقاء الضوء على سيرة المؤلف وتجربته الشعورية إلى مشاعر مختلطة وعامة من التجارب الإنسانية العريضة.
وتتصل أسباب نجاح النهاية الروائية باشتمالها على ثلاثة ملامح: أولها أن تكون هذه النهاية نهاية حتمية لا تستدعي القارئ لأن يفكر في نهاية أخرى محتملة تكون أفضل من النهاية الروائية المقترحة، وذلك يعني بطبيعة الحال أن يكون كل فصل روائي منذ البداية لا يفضي إلى نهاية محتملة فحسب بل يعكسها، وثاني تلك العناصر أن تكون النهاية الروائية مؤكدة لدور أفعال الشخصيات نفسها ولاسيما الرئيسة منها في خلق النهاية المناسبة، ومن ثم يكون دور الروائي في خلق تلك النهاية منطقياً وخاضعاً لفعل الشخصيات، أما ثالثها فالتأكيد على أن النهاية الروائية قد أوجدت بالفعل نهاية ما للعمل، ومع أن ذلك قد يبدو أمراً بسيطاً ساذجاً في الإبداع الروائي ولا يتفق ذلك مع الأعمال الروائية المسلسلة أو المكونة من ثلاثة أجزاء، إذ يتطلع القارئ فيها إلى نهاية تحثه على مواصلة الاطلاع على الجزء التالي.
وأخيراً، فإن دراسة أشكال القص قد تفرض علينا أن نبدأ أولاً بالأكثر أهمية وهو النهاية، وعلينا أن نعد نجاحها جزءا لا يتجزأ من العمل بأكمله، وتخضع القراءة النقدية للنهايات لجوانب منها: قراءة جماليات الشكل اللفظي فيها، وقراءة جماليات المجاز فيها، وقراءة علاقاتها ببنيات القص الأخرى، ودراسة علاقاتها بالثيمات والأفكار المدرجة في النص، ولذلك تعد مقاربة الروايات عبر النهايات أمراً مهماً فالنهاية جوهر العمل الروائي وقاعدته، وهي بوابة جديدة تضيف إلى القارئ للدخول في عوالم تأويلية جديدة وكأنه أمام عنوان جديد.
د. معجب العدواني ...جريدة الرياض السعودية