الخميس، 20 فبراير 2014

الطريق إلى إخراج مصر من أزمتها المالية

محمد العريان

محمد العريان -- الشروق

يواجه مجلس وزراء مصر الجديد قائمة طويلة بما يجب عمله وهو يسعى لتحقيق أهداف الثورة. ومن بين الأولويات الكثيرة، سعى المجلس إلى تعزيز المصالحة السياسية الوطنية وتحسين وضع الأمن الداخلى ووضع البلاد على طريق النمو المرتفع وخلق فرص العمل.
وما يجعل الأمور أكثر صعوبة أن الحكومة الجديدة تواجه قضية مثيرة للجدل ومعقدة بطبيعتها، وهى تلك الخاصة باستعادة الانضباط المالى. وسوف يتعين عليها البدء بالميزانية العامة التى تخرج على سيطرتها وربما تُخْرِج تحقيق طموحات الثورة الأصيلة بسهولة عن مساره.
والواقع أن قليلين يطمحون إلى مواجهة التحدى الصعب الخاص بتصحيح وضع الميزانية الرهيب. وسواء أكان الأمر على مستوى الأسرة أو الشركة أو الحكومة، لا أعرف أحدًا تبنى بحماس مهمة تقليل العجز الكبير فى الميزانية، خاصةً عندما ينطوى الأمر على خفض مؤلم للنفقات وتوليد عائدات لا يحظى بالقبول.
بالنسبة للأفراد، التضحيات مرئية وغالبًا لا يمكن تأجيلها لفترة طويلة. فالمرء مدفوع للبحث عن وظيفة ثانية، وإلغاء بعض خيارات الطعام، ويعجز بشكل محبط عن شراء أشياء لا يرغب فيها أطفاله فحسب، بل هم بحاجة إليها.
الأمر على الشاكلة نفسها بالنسبة لمعظم الشركات. فمشكلات الميزانية تجبرها على فصل عاملين مخلصين ولهم قيمتهم وعلى خفض تكاليف التشغيل الأخرى. كما يتعين عليها العمل بجد أكبر لبيع سلعها وخدماتها. وفى بعض الحالات يمكن أن يؤدى الأمر إلى الإفلاس أو الاستحواذ العدوانى عليها.
إلا أنه عندما يتعلق الأمر بالحكومات فغالبًا ما يكون هناك إحساس بأن تعديلات الميزانية يمكن تأجيلها مرارًا، إن لم يتم تحاشيها بالمرة. والواقع أن هذا هو ما اضطُر الكثير جدًّا من حكومات مصر السابقة إلى عمله. ونتيجة لذلك تواجه البلاد مشكلة مالية أكبر وأكثر تعقيدًا فى الوقت الراهن.
وكشأن البلدان النامية الأخرى التى لم تستغل قدراتها الكبيرة بعد، وكشأن البلدان المتقدمة كاليونان التى تجد نفسها الآن فى فوضى رهيبة، اختار الكثير جدًّا من الحكومات المصرية على مر الزمن واحدة  أو أكثر من المقاربات التالية بدلاً من اتخاذ القرار الخطير والمسئول:
المقاربة الكسولة الخاصة بتغطية العجز الكبير عن طريق الحصول على الأموال من الخارج، سواء أكانت قروضًا رسمية أو ائتمانات تجارية.
المقاربة المخادعة الخاصة بالاقتراض المحلى المفرط، بما فى ذلك تحويل مسار الأموال المخصصة بالفعل لاستخدامات اجتماعية أخرى (ومنها معاشات التقاعد).
المقاربة الأقل وضوحًا لكنها مدمرة إلى حد بعيد الخاصة بإقناع البنك المركزى بطبع البنكنوت لمواجهة إنفاق العجز.
هذه المقاربات الثلاث كلها تفعل ما هو أكثر من تأجيل التحديات التى يتحتم علاجها. فهى تجعلها أكثر صعوبة وتعقيدًا.
ولنستمع الآن للخبر الطيب ــ أو على الأقل الخبر الأقل سوءًا: لا تصدق باستمرار ما تسمعه عن استحالة وعدم ملاءمة الإصلاح المالى فى مصر .
فالإصلاح المالى يتعلق بما يزيد كثيرًا عن التخفيضات المؤلمة والرفع الذى لا يحظى بالقبول للضرائب والرسوم. إنه يتعلق فى المقام الأول بإزالة العوامل التى تتسبب فى امتصاص  طاقة النمو من مصادر البلاد الإنتاجية بشكل مستمر، ويفقر أهلها، ويجعلهم أكثر عرضة للتدخل الأجنبى. بل إن الأمر الأقل بداهةً هو أنه يتعلق كذلك بإصلاح العملية التى تفاقم تفاوت الدخل والثروة ـ نعم تفاقمه.
هل فوجئت بهذا؟ أرجو أن تسمح لى بأن أشرح لك الأمر.
على المستوى الأكثر أساسية، تتعلق مشكلات مصر المالية على نحو أقل بمستويات العائدات والإنفاق، وعلى نحو أكبر بتركيبتها. ونتيجة لذلك تكون مستويات العجز الكبيرة  مصحوبة بسوء توزيع للموارد وبقدر هائل من عدم الكفاءة وبمساءلة شديدة الضعف.
وبشكل مباشر (من خلال جانبى الضرائب والنفقات) وبشكل غير مباشر (من خلال الأثر الضار على التضخم والنمو وفرص العمل)، لا يتحمل عبء مصر المالى الشرائحُ الغنيةُ من المجتمع (التى يمكنها تحمله) وإنما الشرائح الأكثر عرضة للخطر من المجتمع (العاجزة عن حماية نفسها من أخطار الفساد والاستغلال).
وهكذا، إليكم بعض الأفكار لما يمكن أن تكون (بل وأقول ينبغى أن تكون) عليه الميزانية التى يتم إصلاحها ـ أى الميزانية التى يمكن تمويلها بشكل صحيح وتسهم فى الوقت نفسه فى النمو وفرص العمل والعدالة الاجتماعية.
على جوانب العائدات، سوف يهيمن مبدآن من مبادئ الإصلاح العامة: أولاً، تنفيذ أفضل لتحصيل الضرائب، الذى يتسم بقدر أعلى من الفاعلية، من الأشخاص الأغنياء والشركات التى تحقق أرباحًا باهظة، سواءً أكانت محلية أو أجنبية. وثانيًا، التخفيضات الضريبية السخية وضرائب الدخل السلبية المصممة بشكل صحيح (أى تحويلات الأموال) من أجل الفقراء.
سوف يسمح الإصلاح الضريبى هذا لمصر بالشعور بثقة أن لديها فهمًا جيدًا لدعمها الكبير والحساس اجتماعيًّا. وبإحلال الدعم النقدى جزئيًّا محل الدعم العينى، يمكن للحكومة أن توجه برنامج الدعم بشكل أفضل كثيرًا لمن يستحقونه بالفعل. وسوف تتحاشى بذلك الكثير من الإساءة الناجمة عن التحويلات المسرفة لثالوث الأغنياء والشركات الرابحة وموظفى الحكومة الذين يميلون إلى استكمال مكاسبهم على حساب مواطنين يستحقون المال أكثر منهم.
سوف ييسر الإصلاح الضريبى كذلك فرض قدر أكبر من الشفافية وانضباط أفضل على النظام البيروقراطى الذى يميل منذ سنوات ـ إلى ممارسات بها إساءة استغلال للسلطة تثير نفور المواطنين. وسوف يعقب ذلك تخصيص أفضل للموارد، بما فى ذلك إنفاق أكبر وأكثر تأثيرًا بالنسبة لتوفير الخدمات الصحية والتعليم لشرائح المجتمع الأكثر عرضة للخطر.
 هذا كله سوف يحقق ما هو أكثر من كبح الزيادة فى فاتورة خدمات الدَّين المصرية ـ من خلال الحد من الاقتراض فى المستقبل وبتقليل تكلفة التمويل. كما سيحسِّن قدرة البلاد الإنتاجية، ويزيد فرص المواطنين ويمكِّن عددًا أكبر منهم من تحقيق قدرته ويحد من الفقر المدقع.
لا يمكن أن يحدث، ولن يحدث أيٌّ من هذا بين عشية وضحاها. بل إنه جهد سنوات عديدة يتطلب تصميمًا مفصلاً وتنفيذًا واعيًا ومراقبة دقيقة، وهو يتطلب بالقدر نفسه من الأهمية تفسيرات مستمرة لضمان الفهم الشعبى للأمر وقبوله. وعلاوة على ذلك، من المهم أن تكون الإجراءات السياسية متسلسلة تسلسلاً حكيمًا لضمان ألا ينتهى الحال بمعظم الشرائح الأكثر عرضة للخطر من الشعب المصرى وقد تحملت العبء الأثقل مرة أخرى.
ولا شك فى أن الإصلاح المالى المحفز للنمو مرغوب فيه ويتسم بالجدوى. وكلما أسرعت مصر بالشروع فى الجهد السياسى الذى يستمر سنوات عدة والمشروح شرحًا جيدًا والمصمَّم على النحو الصحيح، كان احتمال تحقيق أهداف الثورة وتجاوزها على مر الزمن أكبر.

ليست هناك تعليقات: