محمد المخزنجي -المصري اليوم
قيل لى إنه حقق ثروة طائلة من التهريب عبر الأنفاق، وعندما سمعت حكايته وجدتنى أهتف متحمساً «حلال عليه»! بل أكثر من ذلك، وجدت فى حكايته ضوءاً باهراً فى آخر النفق، نفقنا ونفق العالم الثالث كله، وربما العالم الأول لو كف عن أنانيته وغروره. فصاحبنا كان يُهرِّب «أقراص الجِلّة» المصرية عبر أنفاق رفح إلى قطاع غزة! يشترى الواحد منها بستة قروش ويبيعها بستة جنيهات! وكان وهو يتربَّح يُنشِّط من حيث لا يدرى فضيلة «تدوير النفايات» وحماية البيئة فى قرانا التى تُصدِّر الجلّة، ويسارع فى إغاثة مواقد وأفران إخوة لنا مهددة بالانطفاء فى غزة، وغزة بالمناسبة ليست كلها ولا جلها حماس، فطوفان المليون غزاوى أو أكثر، الذين فاضوا فى شوارع القطاع احتفالا بذكرى تأسيس «فتح»، لم يكونوا فتحاويين كلهم، بل كان معظمهم رافضاً لحماس رفضاً مكتوماً ومقهوراً وجد فى الذكرى فرصة ليعبِّر عن رفضه دون أن يتعرض للقمع! لهؤلاء كان صاحبنا يمد يده، وما فى يده كان يفتح أفقاً لأسئلة شتى لدينا كما غيرنا..
إننا نشتكى من أزمة طاقة تتفاقم، وبدلاً من التوقف والتبيُّن ومراجعة أنفسنا والتيقن من صحة الطريق الذى ينبغى أن نسلكه للخروج من هذه الأزمة، نهرب إلى الأمام منجذبين إلى السحر الأسود فى غوايات الطاقة المريبة، فيهتف بعضنا للفحم ويغنى آخرون للنووى، بينما نحن وإن كنا نمتلك إمكانات كامنة ومهيأة للصقل والاغتناء والصعود، إلا أننا من منظور كتلتنا السكانية الضخمة المُهدَرة وعشوائيتنا الراهنة لانزال فقراء ومتخلفين نسبياً، وهذا يطالبنا بالاجتهاد والإبداع فى نطاق إمكانياتنا، ولو إلى حين ميسرة من الاستقرار والنمو والنهوض والانضباط والأمن، يومها يمكن أن نفكر بتبصُّر فى بدائل للطاقة من نوع ما يُسمَّى «الفحم النظيف»، أو «الطاقة النووية الآمنة»، وإن كنت أتصور، تبعاً للقفزات الواسعة التى تحققها أبحاث الطاقة النظيفة والمستدامة حاليا، أننا فى المستقبل إن توخينا الحكمة والرشادة والتواضع، سنحمد الله على رقة حالنا التى حمتنا من الوقوع فى حبائل تلك «النظافة» وعقابيل ذلك «الأمان» المزعومين فى طاقة الفحم والطاقة النووية وجعلتنا نسلك دروب الطاقات البديلة الحميدة من الشمس والرياح والموج وحرارة باطن الأرض والغاز الحيوى من الروث!
فى مرجع «مصادر الطاقة غير التقليدية» لمؤلفيه العالِمين الهنديين العالميين «شاوهان» و«سريفاستافا»، ورد أن الطاقة من المصادر الحيوية، وبينها الروث، تمثل 15% من الطاقة المستخدمة على مستوى العالم، وتمثل 38% من مجمل استخدامات الطاقة فى البلاد النامية، برغم أن الكفاءة تعوز معظم عمليات استخدام هذه الطاقة. ومثالها لدينا الطاقة الناتجة عن إحراق أقراص «الجِلة»، مما يُهدِر أكثر من نصف فوائد مادتها الخام التى تجود بها بطون البقر!
وبطون البقر أعجوبة، تهضم النباتات فتحولها إلى لحوم وألبان، وما يتبقى من الهضم يخرج كنزاً للطاقة النظيفة والسماد العضوى السخى. وهذا الإنجاز يتحقق بمرور ما تأكله الأبقار فى قناة هضمية بالغة الطول بها أربع معدات لا معدة واحدة، الأولى تعمل كغرفة تخمير تعج ببكتيريا التحلُّل اللاهوائية والثانية المتصلة بها تفرز جزيئات الغذاء المتحلل فترجع الكبيرة منها إلى الفم ليعيد مضغها فى عملية الاجترار، وتمرر مُستحلَب الجزيئات الصغيرة إلى المعدة الثالثة لتستخلص الماء وبعض الأملاح منه، ثم تمرر ما يتبقى إلى المعدة الرابعة أو «المنفحة» لمزيد من الهضم، بعدها تتلقى الأمعاء الدقيقة المحتوى المهضوم لتهضمه أكثر وتمتص منه العناصر الغذائية المهمة، وفى النهاية تجىء الأمعاء الغليظة والأعور ليحدث فيهما تخمر نهائى لبقايا المواد التى لم يُكتمل هضمها مع امتصاص الماء منها، فيتكون الروث.
بجمع الروث ووضعه فى خزانات محكمة معزولة عن الهواء يحدث تحلل تقوم به أربعة أنواع من البكتيريا فينتج غاز الميثان المعروف علميا منذ القرن السادس عشر باسم «غاز توهج المستنقعات»، ويصعد هذا الغاز فتتلقفه أنابيب تنقله إلى مستودعات التخزين أو فوهات غرف احتراق المحركات أو صهاريج المياه لإنتاج البخار لإدارة توربينات توليد الكهرباء. ولا ينتهى عطاء منجم بطن البقرة عند ذلك، فبعد تصاعد غاز الميثان القابل للاشتعال يتبقى من عملية التحلل اللاهوائى سماد عضوى أغنى وأبقى من كل الأسمدة الصناعية، وبأعباء لا تلوث البيئة بأدخنة مصانعها، ولا تزيد من أحمال الكهرباء المدعومة دون وجه حق لهذه المصانع شرهة الاستهلاك للطاقة.
الميثان، ذلك الغاز الحيوى، تتطور محطاته الصغيرة والكبيرة الآن بوتيرة متسارعة فى دول الجنوب، خاصة الهند، وحتى فى دول الشمال يتطور، فثمة أخبار مذهلة عنه تجىء من هذه الدول الغنية والمتقدمة، ففى اليابان طور فريق بحثى من جامعة «هوكايدو» وسيطا مساعدا لاستخراج الهيدروجين والبنزين من ميثان روث البقر. وفى الأرجنتين ابتكر العلماء أجهزة لالتقاط غاز الميثان الناتج عن تجشؤ الأبقار أثناء الاجترار. وفى أمريكا يختارون أماكن قريبة من مزارع الأبقار لإقامة توسعات مراكز الكمبيوترات العملاقة المسماة «مزارع السيرفرات» للحصول على كهرباء رخيصة من غاز الروث. أما المفاجأة الأكثر إدهاشا فهى اتجاه الشركة الأوروبية العملاقة لصناعة الطائرات «إير باص» لتصميم طائرة للمستقبل تعمل على غاز ميثان البقرى. فماذا عنَّا؟
الإجابة بها فتون وشجون، ففى يوم الأحد الماضى، أى اليوم نفسه الذى وقع فيه الحادث الإرهابى الخسيس الذى أودى بضحايا من ضيوفنا الكوريين فى طابا، افتتحت الدكتورة ليلى إسكندر، وزيرة البيئة، محطة لتوليد الغاز الحيوى لاستخدامه وقوداً لفرن الأسمنت بمصنع القطامية التابع لشركة أسمنت السويس بتمويل ذاتى من الشركة بلغ 5 ملايين يورو. وعلى الدرب نفسه افتتحت فى إحدى قرى أسيوط وحدة لتوليد الغاز الحيوى والسماد العضوى تُغنى الفلاحين عن هموم أنابيب البوتاجاز والأسمدة الصناعية ضمن مشروع تتبناه الأمم المتحدة لإقامة 1000 وحدة من هذا النوع بدأت بـ100 وحدة فى القرى الأشد فقرا بمحافظتى أسيوط والفيوم، والبقية فى الطريق.
هكذا يلتقى قدرنا الصعب مع مسعانا الواجب نحو أفق أرحم، أن نجتهد لنستخرج طاقات آمنة ومتاحة ومُتجددة ولو من الروث لنخفِّف عن كاهلنا أعباء الاستدانة والتلوث والمخاطر، بينما نواجه إجرام شر البقر: مسعورو البشر!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق