ما زلت حتي اليوم وبعد مضي 16 شهراً علي آخر مقال أقابل قراء واتلقي رسائل من أصدقاء تسألني: لماذا تركت الكتابة بجريدة التحرير؟
السؤال أصبح قديماً ومملاً وكنت اتصور أن الوقائع والأحداث التي جرت بمصر في الشهور الأخيرة قد تجاوزت هذا السؤال وكشفت للناس إجابته بجلاء و بالتالي كفتني أن اتحدث في هذا الأمر.
و مع ذلك سأجيب للمرة الأخيرة كتابـة حتى أغلق هذا الموضوع ولا أسمح بسماع السؤال بعد ذلك!.
أنا يا سادة لم أترك جريدة التحرير وإنما الجريدة هي التي توقفت وامتنعت عن نشر مقالاتي بدون إبداء الأسباب..توقفت وامتنعت دون أن تخطرني بذلك أو تفسر لي حيثيات القرار..توقفت وامتنعت دون حتى أن تحترم التعاقد الموقع بيني وبين أصحاب الجريدة ودون أن تدفع عن شهور العقد المتبقية ومدتها سبعة أشهر.
في الفترة الأخيرة قبل الوقف كنت بدأت أشعر بأنني أصبحت ضيفاً ثقيلاً على الجريدة..تململهم زاد والتليفونات التي تطلب تغيير فقرة أو حذف أخرى بدأت تحدث على غير اعتياد..كنت حينها لا أفهم ولا أصدق ما يطلبونه..الجريدة ليبرالية أو هذا ما اعتقدت..
وتعبر عن الثورة أو هذا ما فهمت وما دفعني لتفضيلها علي غيرها بعد قيام ثورة يناير..فكيف يضيقون بمواقفي الحرة التي تعبر عن قناعاتي؟ و حتي المقال الأخير (اشربي يا مصر) الذي رفضوا نشره وأوقفوا النشر لي تماماً بعده.. عندما أعود إليه أجده عبارة عن قراءة متزنة للوضع في ذلك الوقت من أواخر نوفمبر 2012 عقب الإعلان الدستوري الديكتاتوري الذي أصدره مرسي.
وقتها كتبت توصيفاً للحالة السياسية المحتقنة وأوضحت الأسباب التي أدت بمرسي لإعلانه الدستوري الكارثي وبينت أنه مخطيء وأن خصومه كذلك مخطؤون.
وهذا في ظني ما لم يغتفر في المقال..كان المطلوب علي حسب ما فهمت من بعض الشباب العاملين بالجريدة – و هم من أصدقائي وقرائي- أن أزيط مع المزيطين وأهيج مع الهائجين وأنخرط في الصف الذي أخذ يعزف نغمة واحدة كتبها مايسترو واحد، وكان الاجتهاد المسموح فقط هو في تعلية الصوت عن باقي العازفين.
لا أنكر أنني انزعجت بشدة من تكشف الموقف لي..ذلك أنني كنت وقتها كما أنا الآن مجرد كاتب يكتب ما يراه و يتناول ما يكتبه من وحي ضميره..كاتب يكتب تأملات في الفن والأدب والسياسة بروح ساخرة مخلصة للفن وللوطن..لا ورائي حزب ولا شلة ولا رجل أعمال ولا جهة أمنية ولا أي أحد ممن يقفون خلف معظم الكتاب و الصحفيين في مصرنا المحروسة.. و كنت وقتها أحسب أن معظمنا كذلك!
في ذلك الوقت رأيت أن معارضة مرسي في إعلانه الدستوري واجبة..لكن واجبة علي من؟..واجبة علي من ساءهم الإعلان الدستوري للمشير طنطاوي الذي أعلنه قبل تسلم مرسي الحكم بأسبوع ليأخذ لنفسه سلطة التشريع بعد حل مجلس الشعب.. و قد كنت واحداً ممن عارضوا طنطاوي في هذا الإجراء..لهذا فقد كان يحق لي أن أعارض مرسي عندما وقع في نفس الخطأ.
أما الذين سكتوا علي الإعلان الدستوري لطنطاوي كعلامة رضا عنه فبأي حق يعارضون مرسي علي فعلة باركوها لغيره؟..لهذا كنت أشعر وقتها بشيء غريب وغير منطقي يلوح في الأفق وكنت أشم رائحة غير طيبة وراء التشنج المبالغ فيه و الحملة الشعواء ضد مرسي.
نعم كنت أعارض مرسي لكن بتبصر وموضوعية ودون أن أكون مدفوعاً من أي جهة أو معبراً عن غير ضميري في معارضتي هذه..لكن كان هناك سيناريو كان صعباً أن أفهمه وقتها.
كان من الممكن ألا أصاب بالدهشة من موقف جريدة التحرير لو أنني كنت كاتباً عابراً أتي إليهم من تيار مناويء أو تم فرضه عليهم بالواسطة أو أي شيء من هذا القبيل، لكن الحقيقة أنني كنت أري أن ما يربطني بهم هو أقوي كثيراً مما يبعدني عنهم و الدليل أنهم سعوا في التعاقد معي و غضبوا عندما عرفوا أنني أوشكت وقتها علي الارتباط بجريدة أخري و لم يهدأوا حتي أخذوني معهم و أفسحوا لي مكاناً مميزاً بالصفحة الأخيرة!..
و كان هذا الموقف طبيعي منهم إذ أن هذه التجربة لم تكن الأولي بيني و بينهم فقد سبقها سنوات من الكتابة بجريدة “الدستور” قبل أن يشتريها رجل أعمال و يذهب بها بعيداً.
نعم سنوات من الكتابة اليومية التطوعية التي لم أحصل مقابلها علي مليم واحد مراعاة لظروف الجريدة التي أفهموني أنها فقيرة.
و كنت سعيداً لأنني ظننت نفسي وقتها أؤدي رسالة أو أقوم بواجب!. لهذا فقد كانت دهشتي كبيرة لتعاملهم علي هذا النحو مع واحد قدّم لهم في السابق عن طيب خاطر سبعمائة مقال بالمجان!. و كان انزعاجي منطقياً من موقفهم الذي لم يحتملوا فيه كاتباً يُعتبر (واحد منهم) لمجرد أنه يتفق معهم في حوالي 80 في المائة فقط من المواقف!.
الأمر الغريب أن بداية كتابتي معهم بجريدة الدستور كان السبب فيها أن “المصري اليوم” التي كنت أكتب بها حينئذ رفضت نشر أحد مقالاتي فقامت الدستور بنشره ثم أقنعوني بالكتابة معهم كل يوم ببلاش! و ها هو التاريخ يعيد نفسه و يرفضون هم نشر مقالي بل و يوقفون النشر لي بصفة عامة..و هو ما يثبت أنه في دنيا الصحافة المصرية فإن أحمد هو نفسه الحاج أحمد..بل إن الحاج أحمد قد يكون أفضل لأنه علي الأقل يدفع للكتاب فلوساً!.
نأتي إلى الأسباب الحقيقية التي لم يطلعني عليها أحد وقد اجتهدت لمعرفتها من خلال شباب العاملين في جريد التحرير..و هؤلاء قد أخبروني أن الجريدة قد بدأ صدرها يضيق بي بعد الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها مرسي والتي كان لي وقتها موقف مؤيد له علي حساب شفيق لا باعتباره مرشح الثورة لكن باعتباره أهون الضررين.
قال لي هؤلاء الشباب إن الكتابة الموضوعية التي كنت أكتبها كانت تحرج الجريدة التي كانت أعلنت النفير العام ضد مرسي و لم تعد تقبل بأقل من شتمه و إهانته كل يوم بالحق و الباطل، و قالوا لي أنني دون قصد كنت أحياناً أفنّد ما يكتبون دون أن أدري، فالكتابة الموضوعية توضح للقراء الكتابات المنحازة و تظهر تهافتها..قيل لي أيضاً أن أكثر ما كان يضايقهم أن أحداً لا يستطيع أن يحسبني علي الإخوان لأن مواقفي ضدهم معروفة و لأن مقالاتي التي انتقدتهم و سخرتُ منهم فيها يعج بها أرشيف الجريدة .
مضت شهور طويلة قبل أن أفهم الصورة و أعيد تكوينها و أدرك أنه كان هناك قناة يتم شقها لا يدري واحد مثلي – يكتب من البيت- عنها شيئاً، و أن هذه القناة كان يشقها عمال غلاظ يملكون القوة و لا يملكون العقل و كان العمل بها يقتضي إزاحة أي أحد لو فكر أن يسأل العمال: ماذا تفعلون و من الذي كلفكم بالحفر؟ أو احذروا وجود كابلات أو إياكم و كسر المواسير.
أذكر أن لقاء جمعني بالأديب الدكتور علاء الأسواني منذ شهور، و عندما سألني عن أسباب توقف مقالاتي بجريدة التحرير و أخبرته بما حدث معي فإنه حكي لي عن تجربة له في جريدة “الشعب” أيام الأستاذ عادل حسين رحمه الله.. قال لي علاء إنه كان مسؤولاً عن الصفحة الثقافية بالجريدة و كان كثيراً ما يختلف مع خط الجريدة و مع رؤية رئيس التحرير، لكن عادل حسين الكبير و الليبرالي بحق كان ينشر لعلاء الأسواني رأيه الذي يخالفه و لا يحذف له كلمة و يكتب في نفس العدد رده عليه..رحم الله عادل حسين الذي أخذ النزاهة و الموضوعية معه إلي القبر!.
شيء آخر أحب أن أضيفه لهذه الحدوتة كان يدهشني وقتها و لم يعد يفعل الآن و هو الصمت التام من جانب أهل الإعلام علي منع كاتب ظل يكتب مقالاً يومياً كان يشكل بعض حديث المدينة لعدة سنوات..الصمت التام، فلم أقرأ أي تعقيب أو رأي بالصحف في هذا الأمر اللهم إلا للأستاذ فهمي هويدي و الشاعر عبد الرحمن يوسف و كانا صاحبي الصوتين الوحيدين اللذين ارتفعا بالسؤال عن كيف يتم منع كاتب من الكتابة لمجرد أن ما كتبه لا يوافق مزاج رئيس التحرير؟
و لا أنكر أن الجميع تقريباً حدثوني في التليفون ليعرفوا حقيقة ما حدث..ثم..لا شيء!..أما برامج التوك شو فقد تعاملت مع الأمر علي أنه شيء طبيعي و لم تر فيه ما يستحق مجرد مداخلة توضيحية باستثناء برنامج مانشيت..وقتها تلفتتُ أبحث عن يسري فودة و عن معتز الدمرداش و عن مني الشاذلي و عن ريم ماجد و عن هالة سرحان و عن مجدي الجلاد و عن خالد صلاح..كلهم تظاهروا بأنهم لم يعرفوا و لم يقرأوا يوماً لكاتب اسمه أسامة غريب!
هذه هي الحكاية يا شباب و أرجو بعدها ألا يسألني أحد عندما يلقاني علي طريقة ماري منيب: إنتي جاية اشتغلي هنا إيه!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق