إننا نتساءل فعلاً لماذا كان الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – يوصي أتباعه في مكة بعدم الدفاع عن أنفسهم؟ كما نتساءل، بالمقابل، لماذا لم يستخدم عيسى بن مريم القوة المسلحة؟
ولفهم هذه النقطة يجب أن ننتبه، كما يقول مالك بن نبي، إلى ظاهرة «الحضانة الحضارية» في كل دعوة؛ فالرسول – صلى الله عليه وسلم – أنهى مرحلته الأولى بتحويل المجتمع سلمياً في عقدين ونيف، في الوقت الذي لم يحقق أتباع المسيح ذلك إلا في ثلاثة قرون. ونحن نعرف عن فكرة «الحضانة» incubation أنها ظاهرة كونية، سواء في علم الأمراض أو تخمر الخبز أو نمو الشجر وولادة الإنسان؛ وهي تنطبق على الأفكار والحضارات. في انفجار مرض التهاب الكبد مائة يوم. في الإيدز قد يستغرق سنوات. في خثرة الأوردة والصمامة الرئوية القاتلة عشرة أيام. في الكزاز أسبوعا، وكذلك سعار الكلب. في نمو الشجرة أشهرا لضرب الجذور. في حمل الإنسان تسعة أشهر وأقل في الأرانب والدجاج. في الأفكار حتى تتخمر والشجر حتى يسمق والزيتون حتى يحمل عشر سنين. أما في الحضارة والأمم فهي قرون بين ذلك كثيرة. منه نبهنا القرآن للرجوع إلى التاريخ.
وإذا كان إبراهيم – عليه السلام – «نواة أمة» («إن إبراهيم كان أمة» – النحل 120) فإن محمداً – صلى الله عليه وسلم – صَنَعَ أمة. وهكذا فهناك فترة كمونية بين البذرة والتشكل وبين الفكرة وتمكُّنها؛ وكانت في الإسلام سريعة دامت 23 عاما، ولكنها في المسيحية احتاجت أربعة عشر ضعفاً. ودعوات الأنبياء متشابهة، تمشي على نسق واحد في التحقق؛ وهي تغيِّر المجتمع سلمياً بتغيير رصيد ما بالنفوس.
يروي لنا تاريخ الهند أن الملك آشوكا، من أسرة موريا، الذي اعتلى العرش عام 273 ق م بعد نهاية غزوات الإسكندر قام، على غرار من سبقه، بتوسيع مملكته عسكرياً. وفي إحدى غزواته في شرق الهند قتل مائة ألف وجرح نظير ذلك من الناس، فهاله منظر الدماء والآلام. وكان اجتماعُه براهب نقطة التحول في تفكيره عن عبثية الحرب، فغير حياته بالكامل من السيف إلى الكلمة والتربية، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن الدم إلى الهداية. ولقد أطلق في مملكته كل ألوان التسامح الديني مع الآخرين من كل الأديان، وصبَّ جهده لترميم البنية التحتية بما يفيد منه العباد، وبلغت به الرحمة حداً أن هيأ مشافي لمعالجة الحيوانات المريضة. وهكذا طلَّق آشوكا الحرب إلى غير رجعة، وتحولت مملكته إلى روح وريحان وجنة نعيم، وذهب اسمُه سلفاً ومثلاً للآخرين. إن قصص هذه النجوم الإنسانية تدفع الإنسان للخشوع والأمل في الجنس البشري من حيث إنه مستودع لمشروع هائل. وإلى أين تنتهي السفالة؟ وإلى أين يحلق السمو؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق