في يوم الأربعاء، الرابع من جمادى الأولى لعام 1435 للهجرة، عن عمر يناهز الرابعة والسبعين، توفي أخي وصديقي وحبيبي عبد الرحمن الفيصل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، بعد أن هدَّه المرض، ففاضت روحه بأمر ربها من قده الممشوق ووجهه الصبوح، فغدا جسدا هامدا فاقدا لذلك البريق الذي كان يشع من عينيه طوال حياته.
كان مولده في الطائف، وفيه نشأ في كنف والديه وترعرع بينهما، ثم التحق بالمدرسة النموذجية التي أسساها لتكون حاضنة للبنين في زمن ندرت فيه المدارس وشحت فيه وسائل التربية والتعليم.
وعندما شب عن الطوق، غادر إلى الولايات المتحدة للدراسة مع بعض إخوانه، وهناك استهوته لعبة كرة القدم وشكّل مع إخوانه ركيزة فريق المدرسة الذي تفوق على فرق المدارس الأخرى وأجاد هو في مركز المدافع لصلابة بنيته، واستهوته كذلك رياضة المبارزة بالسيف فأبدع فيها حتى نال جائزة أفضل مبارز في الولاية التي كانت تقع فيها مدرسته. ولم تلههِ تلك الهوايات عن دراسته، بل حظيت باهتمامه فتفوق في علم الرياضيات حتى اضطرت مدرسته إلى أن تخصص له فصلا ومدرسا لتفوقه على بقية الطلاب ممن هم في سنه. وانتقل فيما بعد ليلتحق بكلية سانت هيرست الشهيرة، في بريطانيا، عندما كان منهجها يستغرق ثلاث سنوات يحتاج الطالب لاجتيازها إلى صبر وجَلَد وتميز، وتوافرت حينها فيه تلك المزايا فتخرج متفوقا، وعاد إلى الوطن ليعمل في الجيش برتبة ملازم ثان وخدم كما غيره من الضباط الجدد في الميدان، فعين بالقيادة العسكرية في تبوك، وهناك عاش ضمن وحدات يسكن أفرادها الخيام والباركسات التي كانت بمثابة ثلاجات في الشتاء وأفران في الصيف. فزادته تلك الحياة صلابة وقوة.
وبعد أن أكمل المدة النظامية في الميدان عاد ليكون مدرسا في كلية الملك عبد العزيز الحربية، وعندما أراد إكمال نصف دينه رزقه الله زوجا حنونا هي موضي بنت خالد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، ابنة عمه، فكانت شريكة أفراحه ومواسية آلامه ووالدة أبنائه: سارة وسعود والبندري.
وطلباً للمعرفة العسكرية المتقدمة والاستزادة منها التحق بدورة الأركان في بريطانيا لينهل من علومها المميزة الرفيعة المستوى. وتخصص في قوة الدروع.
ولما حازه من براعة ومعارف تطبيقية نتيجة التدريب الاحترافي والصقل المهني والأداء المميز، اختاره سيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز، رحمه الله، ليدير مشروع تطوير الدروع، فجال في الدول الصديقة المصنعة للدروع ووقع اختياره على الدبابة الفرنسية لتكون ركيزة للتطوير المنشود. ولم يكتفِ بقبول ما كان معتمدا لدى الآخرين من تكتيك وممارسة في استخدام الدروع، فطوّر مدرسة المدرعات في تبوك لتصبح من أرقى المدارس في العالم وابتعث الضباط وصف الضباط في دورات تدريبية، بل ابتدع تكتيكا جديدا في قتال الدروع، حيث أدخل على الوحدات المدرعة الصواريخ المتحركة المضادة للطائرات المثبتة على هياكل الدبابات نفسها. ووضع مواصفات الصواريخ المطلوبة وأطلق عليها اسم «الشاهين»، ذلك الصقر الذي تولع منذ صغره بتدريبه والصيد به في براري المملكة. وكأني أراه اليوم جالسا أمام المرحوم الرئيس أنور السادات، وذلك بعد أن كلفه والده المرحوم الملك فيصل بزيارة ميادين المعارك بعد حرب رمضان ليلتقي بالقيادات المصرية ويكتب تقريرا عن حرب المدرعات وأدائها في سيناء. ولما أتى السادات في إحدى زياراته للمملكة، طلب من الفيصل أن يلتقي كاتب التقرير فجلس عبد الرحمن أمامه وشرح تفاصيل تقريره للرئيس وأوضح أن الدبابة الروسية تتفوق على الدبابة الأميركية لعدة أسباب، منها قلة التعقيدات الإلكترونية في الروسية عنها في الأميركية، وعدم حاجة الروسية لمكيف هواء للتبريد، مثل الأميركية، مما ميزها بالخفة في التحرك والاستدارة أثناء المعركة بينما الأميركية كانت ثقيلة يتعطل عملها من حرارة الشمس التي تؤثر على أدواتها الإلكترونية المعقدة. وكانت صراحته مدهشة للسادات الذي كان يعتقد أن الدروع الأميركية أكفأ من الروسية، فأثبت له أن الكفاءة تكمن في إدارة الجندي للآلة الحربية التي يستخدمها وليس في تعقيدها وتعددها.
لقد كان عبد الرحمن الإنسان في حياته، يشع حيوية، يحب المزاح، فارسا يسوس الخيل، شهما يناصر الضعيف على القوي، سريع الغضب وأسرع للتسامح. نمت فيه محبة البادية وأهلها فشاركهم مقانيصهم وحفظ سواليفهم وأشعارهم وأحجياتهم التي عندما كبر كان يتلذذ بسردها على الصغار الذين كانوا يقصدون داره بعد كل صلاة جمعة. ضف إخوته في مجلس الليل بعد وفاة والدته وكان الملفى الذي يصبو إليه أقاربه.
وأختم وفؤادي يتفطر من الحزن، وتخنقني العبرات على فراق الوليف قائلا:
رحمك الله يا أبا سعود. لقد فقدك أخوك ومحبوك ومعارفك، وعزاؤنا هو أنك أثريتنا بمحبتك ولمعان ذكائك وابتسامتك المشرقة التي تبقى أمام أعيننا وفي أفئدتنا، لندعو لك بالرحمة والسكينة عند الرحمن الرحيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق