فى ذكراه .. كلمات عن ابن البحيرة .. حارس الوطن .. المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة..(15 يناير 1930 - 6 سبتمبر 2008)
أبو غزالة الذي لم يعرفه أحد ...
الآن ... أعطي لنفسي الحق في أن أكتب عن ذلك الرجل الذي كان ومازال علامة من علامات الإنسانية فلم يعد بيني وبينه أي مصلحة ترتجى ولن تثور شبهة المداهنة ذلك أن بيني وبين النفاق جسراً لن أعبره فاختزنت إعجابي بالرجل حتى ترك منصبه كوزير للدفاع ونائب لرئيس الوزراء ثم كمساعد لرئيس الجمهورية وبعد أن أعطى الناس لأنفسهم حق أن يتخيلوه كرئيس للجمهورية ... أو أن ينظروا إليه كما ينظرون إلى المنقذ الذي ينتقل بهم من عالم الأحلام إلى عالم الحقيقة فأطلقت قلمي لأسدد حق الوفاء له... ولأني أولى من الناس جميعاً في الكتابة عنه فقد قهرت الامتناع داخلي وعرضت هذه الحقائق دون أن أطلب منه إذناً فالحق في هذا الأمر هو حق الناس في أن يعلموا عن هذا الرجل وجهه الإنساني وحقهم أيضاً في أن يتعايشوا معه حق التعايش .
وإذا كان الاسم العائلي " ثروت " فإن الاسم الحقيقي هو محمد عبد الحليم أبو غزالة وقد حصل الشاب " محمد " على " التوجيهية " من مدرسة دمنهور الثانوية وقدم أوراقه إلى الكلية الحربية وتلاحظ عليه النبوغ منذ اللحظة الأولى ... وبالرغم من أن الطالب " محمد " كان هو الأصغر بين أبناء دفعته في الكلية الحربية إلا أنه كان الأول على هذه الدفعة ... وتشهد أحداث شبابه بانفتاح فكري واضح ظهر في متابعته للفنون والآداب والقصص ... إلا أنك قد تلاحظ حبه للقراءة والإطلاع بصفه خاصة منذ اللحظات الأولى في أيام حياته .
ونطوى صفحة البداية لنبدأ مع الضابط الشاب وليبدأ مسرح الأحداث مع الرجل انطلاقاً من شارع المهدي – والمنزل رقم 13 بحلميه الزيتون حيث المكان الذي سكن فيه المشير " أبو غزالة " منذ أن كان ضابطاً صغيراً ... وشارع المهدي هو شارع صغير خلف مسجد الشيخ بخيت بميدان حلميه الزيتون بنى فيه الضابط الشاب " ثروت " منزلاً من ثلاثة طوابق سكن في الأخير منها ولم يأنف من تلك الحارة الضيقة والتي لا يزيد عرضها عن أربعة أمتار حتى بعد أن وصل إلى رتبة اللواء ... وربما كان أهل الحي يتحدثون فخراً عن " سيادة اللواء " طوال عشرتهم معه إلا أنه لم يجد في نفسه ما يستحق الفخر ... ففي التواضع يكمن مفتاح شخصية هذا الرجل الأسطوري الذي يصاحب سائق سيارته ويصادق البسطاء ويلعب كرة القدم مع جنود معسكره .
إنك إذا دخلت إلى مدرسة المدفعية مثلاً في منطقة الماظة وقت أن كان اللواء " محمد عبد الحليم أبو غزالة " رئيساً لأركان المدفعية فإنك تجد نفسك بين يدي جيش شديد البأس عظيم النظام وتجد أيضاً وفي ذات الوقت ساعات للترفيه يزدحم فيها ملعب كرة القدم ويضيق بالجمهور ... وإذ يتصايح اللاعبون وهم من الجنود فيما بينهم " العب يا فندم " " باصي يا فندم " فثق أن بينهم ومعهم يلعب رئيس أركان سلاح المدفعية المصرية ...وهي صورة تشرح لك طبيعة قائد يملك مقومات خاصة وكم يمنح التواضع للناس من درجات المهم أن المباراة تستمر حتى نهايتها ويا لحسن الحظ لو أحرز سيادة اللواء " محمد عبد الحليم أبو غزالة " هدفاً ... وأقصد حظ الجنود طبعاً .
وهذه الأحداث يرويها لنا الطفل الصغير الذي مات والده وهو لم يصل إلى العاشرة من عمره بعد ... وحين يموت الأب يصاب أصحابه جميعاً بفقدان الذاكرة ... ففي زمن عز فيه الوفاء قل أن يتذكرك الواحد منهم حتى إن قابلك فلا تملك إلا أن تذكره بنفسك فتجد منه وبدلاً من أن يتذكرك تجده وقد تذكر موعداً قد حان وقته المهم أنك لا تسمع إلا وقع الخطوات وهي ترحل بعيداً عنك في سرعة البرق ولكن " ثروت " لم يكن من هذا الطراز ... بل كان من النماذج التي ساقها لنا التاريخ عنواناً للوفاء فقد كان وفياً إلى صداقته وقرابته إلى حد الملازمة والمتابعة والاهتمام ... وقد كان قريباً لوالد الطفل الصغير وصديقاً له في آن واحد ومن هنا دارت معه العديد من الأحداث والمواقف التي كشفت عن رجل قل أن يتكرر في هذا الزمان .
وكلما زادت النجوم على كتف الضابط الصغير كلما ازداد تواضعه وكلما افتخر به الابن اليتيم أمام أقرانه في المدرسة " إنه خالي ثروت " مع أنه لم يكن " خاله ولا يحزنون " إلا أنه ومن فرط الحنان فقد وصل " ثروت " إلى ما هو أعلى من صلات القربى .
وكانت مباريات النادي الأهلي هي الوليمة التي يجتمع عندها الأحباب ويدعى لها الأقارب والأصحاب وبالطبع فإن الأطفال لا تنسى ولا تضيع في غمره الزحام بل إنهم غالباً ما يتقدمون في وليمة " عمو ثروت " ولهم كل الاهتمام وبينهم ذلك الطفل الصغير وينفعل الحاضرون بالتشجيع والهتاف والانتقاد أيضاً وهم يشاهدون المباراة في التليفزيون أما " عمو ثروت " فقد كان أشد الناس انفعالاً إلا أنه إذا أراد أن ينتقد لاعباً فإن أعلى الألفاظ عنده هو أن يقول " ريعو النهاردة وحش " وقد كان الزمن وقتئذ زمن ريعو والسايس والفناجيلي والشيخ طه .
وبهذه المناسبة فإن المشير أبو غزالة يحب النكات ويفهم المزاح الراقي – وكان أن فاز الأهلي على الزمالك في الستينيات بثلاثة أهداف نظيفة فأرسل تلغرافاً يسوق فيه التعازي إلى زوج أخته رحمه الله إذ كان من مشجعي الزمالك وإذ يقرأ عباراته فيجدها لا تزيد عن " تعازينا في الثلاثي المرح " .
واليقين في الأمر أن هذه الرقة لم يكن يخص بها أحداً دون أحد ... بل قد يصل بك العجب مداه إذ تجده رقيقاً حتى مع قاتل ابنه ... فيوم أن مات ولده هشام رحمه الله في ميدان حلميه الزيتون اثر حادث اليم ارتكبه سائق يعمل في هيئة النقل العام وربما كان ذلك في أوائل الستينات ... لم يمنعه الألم أو الأسى من أن يصافح السائق القاتل في سرادق العزاء بل إنه لم يوجه إلي السائق حتى كلمة عتاب ... ولم تكن لديه رغبة في الانتقام أو ضغينة يحملها وبالتالي فلم يتكلف عناء مقاومة حقد أو مرارة كتمان غلٍِ يحمله وحتى باب الذكريات بشأن فقيده فلم يفتحه الرجل إلا في حدود المسموح ولم يسمعه أحد يضع الفروض أن لو كان هشام حياً لكان كذا وكذا ...
وقد كان يحلو له كل شيء ويحلو معه كل شيء ... فيحلو لك أن تشاهده وهو يرتدي الثوب الأبيض في كل جمعه ليصلي في مسجد الشيخ " بخيت " في ميدان حلميه الزيتون والذي يبعد عن شارع المهدي عشر خطوات كما يحلو لك أن تشاهده وهو يمزج السمات الشرقية بالالتزام الديني مع احترام حرية الآخرين في وعاء واحد داخل بيته ومع أسرته – فلم ينشأ غريباً عن مجتمعه إنما ظل رغم صعوده على سلم السياسة والحكم محترماً أصوله الشرقية حريصاً على انتظام بيته ضعيفاً أمام أمه ضعف رحمه وتقدير كل ذلك في وسطيه رائعة نبعت من نفس سويه .
وإذ يأتي الحديث إلى ذكر أمه الحاجة مبروكة زعتر بنت نكلا العنب بحيرة .. فهو حديث البر الصادق ... فقد تربى المشير أبو غزالة بين أب يعمل بهيئة البريد وأم من الطراز المصري النادر والأم هي التي صاحبت الطالب الصغير " محمد " كما صاحبت المشير " محمد عبد الحليم أبو غزالة " ... حتى آخر أيامها .
لم تكن القبلة التي يضعها على يدها إلا عنواناً لمرحلة تاريخية ساهمت فيها أمه بالنصيب الأكبر ... وقد ماتت الحاجة " مبروكة " رحمها الله منذ عشر سنوات أو يزيد قليلاً ويروي الذين حضروا لحظاتها الأخيرة أنها كانت تخص بالدعاء ابنها " ثروت " رغم تقدم العمر بها واختلاط الأسماء لديها والأم لا تكثر من الدعاء لأصحاب المناصب من أبنائها وإنما تكثر من الدعاء لأصحاب القلوب منهم .
وإذا ما عدنا إلى الطفل الصغير وقد نما حتى المرحلة الثانوية فهو يتحسس الأخبار لعله يعرف متى يأتي إلى بيتهم " عمو ثروت " فإذا ما عرف الموعد دعا كل الأصدقاء المحترمين في المرحلة الثانوية وقليل ما هم ذلك لحرصه على أن يبدو محترماً أمام " عمو ثروت " ولك أن تقول إنما يريد أن يبدو محترماً أمام الزملاء والأقران أيضاً – ويجلس المراهقون أمام الرجل وهم في أشد حالات الانبهار – ولم يكن ذلك الانبهار بالنسر أو بالنجوم التي وضعتها الرتب على الأكتاف وإنما كان الشيء الأخاذ هو ذلك البريق الذي يشع من عين الرجل بالذكاء والتواضع في آن واحد – فحينما تكون الجلسة " جلسة عيال " يرتقي بها الرجل في حديث جميل حول الوطن والمستقبل وأطماع اسرائيل فتتحول الجلسة بقدرة قادر إلى " جلسة كبار " وكبار جداً كمان – والأعجب أن هذه المجموعة من المراهقين ظلت تحفظ كلمات الرجل وترددها حتى بعد أن تجاوز الواحد منهم سن الخمسين .
إن الملفت للنظر هو قدرة الرجل في أن يتحدث عن الموضوعات العظام فيوصلها إلى الصغير بصياغة يفهمها وإلى الكبير بصياغة تليق به ...
إن المخزون الثقافي لدى الرجل يصعب أن نحصره في مقال ... إلا أن المؤلفات التي كتبها فضلاً عن التراجم لتشير إلى ذلك المخزون العلمي ومدى تنوعه ... فقد كتب عن المصطلحات العسكرية وعن فنون الحرب وعن الانتصارات العربية في صدر الإسلام وعن الحرب العراقية الإيرانية مؤلفات عديدة ...
وإن شئت فلنخص بالذكر تلك الأجزاء الأربعة التي صدرت تحت عنوان تاريخ " فن الحرب " ... وهي عمل موسوعي رفيع المستوى فضلاً عن دراسته الرائعة لحرب الصحراء ومؤلفه عن حرب الخليج الثانية وعلاقتها بالأمن القومي .
ولأنه كان يبشر بنصر أكتوبر منذ زمن بعيد ... فضلاً عن كونه أحد فرسانها تخطيطاً وتنفيذاً فقد كتب عن دور المدفعية التاريخي كتاباً بعنوان " وانطلقت المدافع عند الظهيرة " ... ولعل الذاكرة تسعفني في أسماء بعض التراجم وهي عديدة منها ترجمة عن استخدام الطرق الرياضية في الحرب الحديثة ومنها ترجمة كتاب " بعد العاصفة " فضلاً عن الترجمة الشهيرة للكتاب القيم " الحرب وضد الحرب " وهو يتحدث عن أسرار وعوامل البقاء في القرن الواحد والعشرين .
لقد وضع المشير " أبو غزالة " أيضاً مقدمة موجزة لكتاب " نصر بلا حرب " الذي ألفه الرئيس الأمريكي السابق " نيكسون " إلا أني اعتقد أن في مقدمته كانت الإشارة إلى مفتاح فهم حقيقة الكتاب وقد استعرت من مكتبته كتاباً عن غاندي وعنوانه " هذا مذهبي " وبالمناسبة فلم أرده له حتى الآن وكان ذلك منذ ثلاثين عاماً تقريباً .
وكان " أبو غزالة " يتخير لهوايته ما يتفق مع مواهبه ويأنس إلى لعبة " الشطرنج " فكان ينهي دور الشطرنج في دقائق معدودة وكنا نبطيء من حركة اليدين حتى يطول الوقت الذي نمضيه ونحن نتقمص شكل الأنداد له أمام رقعة الشطرنج فيفخر الواحد منا بأنه أطال الدور أمامه لعشر دقائق مثلاً أو يزيد ... وإذا ما غبت عنه لدقيقتين لتعد فيها كوباً من الشاي للضيف العزيز فتعود إليه وهو يلقي بالجريدة أرضاً وقد صرع الكلمات المتقاطعة بأكملها فلا تجد بها خانة بيضاء إلا وقد طعنها بسهم المعرفة ...
وفي حرب أكتوبر 1973 كان الشباب يتناقلون أخباره كما يتناقل الناس روايات " الشاطر حسن " الذي قهر " أمنا الغولة " ولأن الغولة لم تكن أمنا يوماً ما فقد قهرها رئيس أركان المدفعية وقتئذ مع صحبه طاهرة من أبناء مصر المخلصين ... فلم يعد من الجبهة زائراً لبيته شأنه شأن الجنود جميعاً – حتى عاد المشتاقون إلى ذويهم فعاد مع عودة أقل الرتب ... في مساواة هي من قبس الأنبياء .
وإذا كان بين البشر صلات قربى فإن القيم الإنسانية بها أيضاً صلات قربى ... أو تلازم فإنك تجد صفة التواضع دائماً وهي تلازم صفة العدل والمساواة في أي نفس بشرية... وتجد أن من المساواة عدم استغلال النفوذ والبعد عن التربح ... وأن من العدالة ألا يرتقي الإنسان على غيره أو ينتزع حقاً من الآخرين استغلالاً لنفوذه وكل هذه السمات قد التقت في شخص المشير " أبو غزالة " ولم يكن " أبو غزالة " إلا هذا الطراز الذي نأى بنفسه عن استغلال النفوذ أو التربح أو الإثراء غير المشروع ... ومما أذكره في هذا المجال أن مذيعه في تليفزيون " أبو ظبي " أرادت أن تسجل معه حديثاً في بيته ... ولعل ما دار في خلدها ولم تحدث أحداً به أنها كانت تتطلع إلى رؤية قصر المشير " أبو غزالة " بعد أن انتهت مسئولياته الوزارية ... بل إنها كانت تبحث عن الأثاث الذي تم استيراده من " ايطاليا " خصيصاً لهذا البيت حسبما كان يردد الحاسدون وضعاف النفوس وأجرت المذيعة حديثاً تليفزيونياً بشقة المشير " محمد عبد الحليم أبو غزالة " في مدينة نصر ..... وإذ تجد المذيعة ذلك التواضع في كل شيء ... والذي يبدأ من سلم العقار حتى حجرة استقبال الضيوف بمنزله فتنقل هذه الحقيقة في بث تليفزيوني يبعث على الفخر ... أذاعته عده قنوات فضائية إلا قناة مصر طبعاً .
وقد انتمى إلى مدرسة الالتزام الأخلاقي ولداه " طارق " و " أشرف " وعلى ذات النهج من الابتعاد عن استغلال النفوذ.. هذا وقد تخرج الأول منهما من كلية الطب بينما تخرج الثاني من كلية الطيران وما عرف الناس عن واحد منهما استغلالاً للنفوذ أو الإثراء الحرام .
وقد نالت أم المشير " محمد عبد الحليم أبو غزالة " حظها من قيمة المساواة ... فكان من أمرها وهي أم وزير الدفاع ونائب رئيس الوزراء أن تدخل مستشفى الحلمية العسكري لتعالج من آلام في " الركب " شأنها شأن الأمهات جميعاً ... واسر الضباط على قدم سواء وللعلم فقد ماتت رحمها الله في مستشفى " مصطفى كامل " العسكري بالإسكندرية ولم نسمع عن امتيازِ واحد منحته إدارة المستشفى لها حيث كانت تعالج من أمراض عديدة.
وأعود لأسأل القاريء متى شاهدت أفراح المشير في الصحف أو المجلات ...؟! إنه يا صديقي قد دفن أخباره جميعاً في عشه الذهبي وعزف على أوتار البعد عن المهاترات ومجون الشهرة... برصيد من الخلق والثقة بالنفس
وإذا كان لنا أن نتحدث عنه في بيته فلن نتحدث إلا من جانب واحد حتى نعرف كيف كان الرجل المقاتل والذي أنفق عمره في حروب عسكرية لا يعرف شيئاً عن عسكره البيوت ... ولا يحب هذا النوع من التعامل إذ لم يكن في بيته من أنصار " تمام يا فندم " بل لعل أقسى القرارات التي أتخذها ري بيته كان قرار " الريجيم " الذي فرضه على نفسه فاستطاع التعامل مع السعرات الحرارية بصورة قد هذبتها من فرط ما تحكم فيها ... وكان من أقسى قراراته أيضاً على نفسه أن يستمر في خدمة سلاح المدفعية رغم إصابته بالالتهاب في " الأذن الوسطى " فلم يمنعه ذلك المرض من مواصلة التعامل مع المدافع فإخلاصه للعمل وللمدفع كان أعلى من إخلاصه لأذنه الوسطى .
وتمر السنون وترتقي مصر بالرجل حتى أصبح ملحقاً عسكرياً في الولايات المتحدة الأمريكية فكان يعود من مهمته ليوزع الدقائق بين بيوته الأربعين فلا يجور حق أسرته على حق الرحم ولا ينسيه الاشتياق إلى أبنائه حق الوفاء لغيرهم .
وعاد أبو غزالة من رحلته إلى أمريكا ليكون نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للدفاع ولم يغب عن ذهنه أنه لم يملك سيارة في حياته حتى تخطى رتبة اللواء وربما كان أعلى من ذلك حين تملكها وإن كنت لا أذكر ماركة السيارة ولا سنة صنعها إلا أني أذكر يوم دخولها من ميناء بور سعيد وهي تسدد كامل جمركها بالقرب من عام 1980 .
إن هذه الحقيقة هي التي دفعت الوزير محمد عبد الحليم أبو غزالة أن يحقق حركة الاكتفاء للضباط الشبان ليملك الضابط سيارته وشقته وكرامته في آن واحد .
إن البر الذي اختزنه " أبو غزالة " لأمه كان يفرض نفسه على أسرته وأسرة زوجته وأبناء قريته وكل من كان في ذيل أسمه " غزالة " ولو كانت غزالة مضروبة ...
ويمتد البر إلى أبناء قريته " قبور الأمراء " بالدلنجات – محافظة البحيرة والتي تحول أسمها بعد ذلك على يديه إلى " زهور الأمراء "... وهذا التحول هو الذي يفسر لك ذلك الاستقبال الشعبي الذي كان يستقبل به الفلاحون البسطاء ذلك الرجل وحتى يومنا هذا كما حرص على أن يقيم لهم دور العلم والمعرفة وأذكر أن قصده الناس لبناء مسجد بقريته ففضل أن يبني مدرسة يتخرج منها المصلون ...فكان المعهد الأزهري وهكذا كان أبو غزالة بعيد الفهم ... راسخ الاعتقاد.
ولم يفلت منه عزاء أو واجب أو مناسبة إلا وقد أداها حقها وهو الشاهد الفعلي على كل زيجات العائلة إلا زيجة واحدة جمعت بين كاتب هذه السطور وبين أبنه أخته إذ لم تكن هذه الزيجة رهن موافقته الفكرية وقتئذ إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يعطي الرحم حقه وزيادة فلم تأخذه عزه الانفعال بالرأي إلى التشدد أو الإقلال من الحقوق .
إن هذا الحديث يجرى بنا إلى العدالة ... والبر جزء منها فهل رأى أحدكم المشير أبو غزالة وهو يعتلي منصه القضاء ؟!أما أنا فقد رأيته بعيون الزملاء من المحامين وكان ذلك اثر تعديل تشريعي صدر في عام 1989جعل من وزير الدفاع قاضياً ينظر بنفسه في تظلمات المفصولين من الخدمة العسكرية – فكان المحامون يحكون عنه قاضياً لا يعرف الانفعال فيستمتعون بالجلسة الوحيدة التي تعقد برئاسته كل عام أو أقل قليلاً ... ولم تعرف منصه القضاء قاضياً يظل مبتسماً طوال الوقت إلا المشير أبو غزالة.
وفي النهاية فإن من الإنصاف أن نذكر للتاريخ أن المشير " أبو غزالة " كان يملك مفتاحاً لحل العديد من المشكلات التي تعاني منها مصر وإن كنت لا أعرف تحديداً ما الذي حال بين أن ينعم الناس ببذور معرفته وأن تتحول هذه البذور إلى واقع يحياه الناس فقد حدث أن استضافه التلفزيون المصري ذات مرة أو قل إن شئت لمرة وحيده – فتطرق الحديث إلى حل مشكلة الخبز في مصر والذي كان شحيحاً وقتئذ ... وإذ يتحدث وزير الدفاع في أمر من أمور الاقتصاد فيجده الناس فارساً في السياسة والاقتصاد والحروب معاً... ومما لا يعرفه الناس أن الرجل قد أتم دراسته في كلية التجارة وحصل على بعض الدراسات العليا في فروع لا أذكرها الآن .
المهم أننا استمعنا في هذا البرنامج إلى كلام علمي مدروس من فلاح متفهم ومن اقتصادي مدبر ... صحيح أن شيئاً مما قاله لم يطبق في الواقع المصري لكن الأصح أن الأزمة قد تعقدت لأن أحداً لم يستجب له ومازالت تلك المشاكل التي ناقشها التلفزيون المصري في هذه الحلقة الوحيدة مدفونة في أدراج ماسبيرو بل إني لا أجاوز الحقيقة حينما أقول إن الحلقة بأكملها قد دفنت في أدراج ماسبيرو. ويبقى السؤال لماذا يظل أسم " أبو غزالة " مطبوعاً في عقول وقلوب الناس حتى الآن ؟! ولماذا يتغنى بهذا الاسم ضباط مصر حتى الآن ؟! ولماذا يصر سائق التاكسي على أن يسمي مدينة الزهراء في حلميه الزيتون بمدينة " أبو غزالة " ويسمي عمارات الضباط في كل مكان بعمارات " أبو غزالة " حتى الآن ؟! ... ولا أكون مبالغاً إذا ما قلت أنه لم يعلق اسم بأذهان البسطاء من حكام أو وزراء مصر مثلما علق اسم ... المشير " محمد عبد الحليم أبو غزالة " بقلوب المصريين .
والعلم اليقيني عندي هو أن الناسك قد اختار الخلود إلى معبده ... وأن المشير " محمد عبد الحليم أبو غزالة " قد اكتفى بما وضعه من بصمات وعلامات على صفحة مصر وتاريخها وهو يعيش حياة هادئة بين القراءة والرياضة ولعلي لا أذيع سراً فقد نقل لي أحد الأصدقاء أن المشير " عبد الحليم أبو غزالة " فضل أن يحمل لقب " الوزير السابق " عن أن يكون مستشاراً عسكرياً لدولة عربية ذلك أن المال لم يكن ضمن حسابات " أبو غزالة " ...
حقاً ... لم يكن أبو غزالة محطة قطار مر عليها المسافرون ولكنه كان منتهى حلم العاشقين في صفاته وتواضعه وسطور حياته ... حتى وإن فرضت عليه الظروف أن يكون ضمن منظومة لها أو عليها فقد ظل هو الأنصع فيها ... وظل هو النداء المتكرر الذي يدعونا دائماً إلى الأفضل وأحمد الله أن مكنني من ذكر تلك الحقائق فإن في الأعناق حقوق وديون وأعلى هذه الحقوق أن نعطي لكل ذي حقه .
أسكنه الله الفردوس الأعلى
وإنا لله وإنا ليه راجعون
منقول
أبو غزالة الذي لم يعرفه أحد ...
الآن ... أعطي لنفسي الحق في أن أكتب عن ذلك الرجل الذي كان ومازال علامة من علامات الإنسانية فلم يعد بيني وبينه أي مصلحة ترتجى ولن تثور شبهة المداهنة ذلك أن بيني وبين النفاق جسراً لن أعبره فاختزنت إعجابي بالرجل حتى ترك منصبه كوزير للدفاع ونائب لرئيس الوزراء ثم كمساعد لرئيس الجمهورية وبعد أن أعطى الناس لأنفسهم حق أن يتخيلوه كرئيس للجمهورية ... أو أن ينظروا إليه كما ينظرون إلى المنقذ الذي ينتقل بهم من عالم الأحلام إلى عالم الحقيقة فأطلقت قلمي لأسدد حق الوفاء له... ولأني أولى من الناس جميعاً في الكتابة عنه فقد قهرت الامتناع داخلي وعرضت هذه الحقائق دون أن أطلب منه إذناً فالحق في هذا الأمر هو حق الناس في أن يعلموا عن هذا الرجل وجهه الإنساني وحقهم أيضاً في أن يتعايشوا معه حق التعايش .
وإذا كان الاسم العائلي " ثروت " فإن الاسم الحقيقي هو محمد عبد الحليم أبو غزالة وقد حصل الشاب " محمد " على " التوجيهية " من مدرسة دمنهور الثانوية وقدم أوراقه إلى الكلية الحربية وتلاحظ عليه النبوغ منذ اللحظة الأولى ... وبالرغم من أن الطالب " محمد " كان هو الأصغر بين أبناء دفعته في الكلية الحربية إلا أنه كان الأول على هذه الدفعة ... وتشهد أحداث شبابه بانفتاح فكري واضح ظهر في متابعته للفنون والآداب والقصص ... إلا أنك قد تلاحظ حبه للقراءة والإطلاع بصفه خاصة منذ اللحظات الأولى في أيام حياته .
ونطوى صفحة البداية لنبدأ مع الضابط الشاب وليبدأ مسرح الأحداث مع الرجل انطلاقاً من شارع المهدي – والمنزل رقم 13 بحلميه الزيتون حيث المكان الذي سكن فيه المشير " أبو غزالة " منذ أن كان ضابطاً صغيراً ... وشارع المهدي هو شارع صغير خلف مسجد الشيخ بخيت بميدان حلميه الزيتون بنى فيه الضابط الشاب " ثروت " منزلاً من ثلاثة طوابق سكن في الأخير منها ولم يأنف من تلك الحارة الضيقة والتي لا يزيد عرضها عن أربعة أمتار حتى بعد أن وصل إلى رتبة اللواء ... وربما كان أهل الحي يتحدثون فخراً عن " سيادة اللواء " طوال عشرتهم معه إلا أنه لم يجد في نفسه ما يستحق الفخر ... ففي التواضع يكمن مفتاح شخصية هذا الرجل الأسطوري الذي يصاحب سائق سيارته ويصادق البسطاء ويلعب كرة القدم مع جنود معسكره .
إنك إذا دخلت إلى مدرسة المدفعية مثلاً في منطقة الماظة وقت أن كان اللواء " محمد عبد الحليم أبو غزالة " رئيساً لأركان المدفعية فإنك تجد نفسك بين يدي جيش شديد البأس عظيم النظام وتجد أيضاً وفي ذات الوقت ساعات للترفيه يزدحم فيها ملعب كرة القدم ويضيق بالجمهور ... وإذ يتصايح اللاعبون وهم من الجنود فيما بينهم " العب يا فندم " " باصي يا فندم " فثق أن بينهم ومعهم يلعب رئيس أركان سلاح المدفعية المصرية ...وهي صورة تشرح لك طبيعة قائد يملك مقومات خاصة وكم يمنح التواضع للناس من درجات المهم أن المباراة تستمر حتى نهايتها ويا لحسن الحظ لو أحرز سيادة اللواء " محمد عبد الحليم أبو غزالة " هدفاً ... وأقصد حظ الجنود طبعاً .
وهذه الأحداث يرويها لنا الطفل الصغير الذي مات والده وهو لم يصل إلى العاشرة من عمره بعد ... وحين يموت الأب يصاب أصحابه جميعاً بفقدان الذاكرة ... ففي زمن عز فيه الوفاء قل أن يتذكرك الواحد منهم حتى إن قابلك فلا تملك إلا أن تذكره بنفسك فتجد منه وبدلاً من أن يتذكرك تجده وقد تذكر موعداً قد حان وقته المهم أنك لا تسمع إلا وقع الخطوات وهي ترحل بعيداً عنك في سرعة البرق ولكن " ثروت " لم يكن من هذا الطراز ... بل كان من النماذج التي ساقها لنا التاريخ عنواناً للوفاء فقد كان وفياً إلى صداقته وقرابته إلى حد الملازمة والمتابعة والاهتمام ... وقد كان قريباً لوالد الطفل الصغير وصديقاً له في آن واحد ومن هنا دارت معه العديد من الأحداث والمواقف التي كشفت عن رجل قل أن يتكرر في هذا الزمان .
وكلما زادت النجوم على كتف الضابط الصغير كلما ازداد تواضعه وكلما افتخر به الابن اليتيم أمام أقرانه في المدرسة " إنه خالي ثروت " مع أنه لم يكن " خاله ولا يحزنون " إلا أنه ومن فرط الحنان فقد وصل " ثروت " إلى ما هو أعلى من صلات القربى .
وكانت مباريات النادي الأهلي هي الوليمة التي يجتمع عندها الأحباب ويدعى لها الأقارب والأصحاب وبالطبع فإن الأطفال لا تنسى ولا تضيع في غمره الزحام بل إنهم غالباً ما يتقدمون في وليمة " عمو ثروت " ولهم كل الاهتمام وبينهم ذلك الطفل الصغير وينفعل الحاضرون بالتشجيع والهتاف والانتقاد أيضاً وهم يشاهدون المباراة في التليفزيون أما " عمو ثروت " فقد كان أشد الناس انفعالاً إلا أنه إذا أراد أن ينتقد لاعباً فإن أعلى الألفاظ عنده هو أن يقول " ريعو النهاردة وحش " وقد كان الزمن وقتئذ زمن ريعو والسايس والفناجيلي والشيخ طه .
وبهذه المناسبة فإن المشير أبو غزالة يحب النكات ويفهم المزاح الراقي – وكان أن فاز الأهلي على الزمالك في الستينيات بثلاثة أهداف نظيفة فأرسل تلغرافاً يسوق فيه التعازي إلى زوج أخته رحمه الله إذ كان من مشجعي الزمالك وإذ يقرأ عباراته فيجدها لا تزيد عن " تعازينا في الثلاثي المرح " .
واليقين في الأمر أن هذه الرقة لم يكن يخص بها أحداً دون أحد ... بل قد يصل بك العجب مداه إذ تجده رقيقاً حتى مع قاتل ابنه ... فيوم أن مات ولده هشام رحمه الله في ميدان حلميه الزيتون اثر حادث اليم ارتكبه سائق يعمل في هيئة النقل العام وربما كان ذلك في أوائل الستينات ... لم يمنعه الألم أو الأسى من أن يصافح السائق القاتل في سرادق العزاء بل إنه لم يوجه إلي السائق حتى كلمة عتاب ... ولم تكن لديه رغبة في الانتقام أو ضغينة يحملها وبالتالي فلم يتكلف عناء مقاومة حقد أو مرارة كتمان غلٍِ يحمله وحتى باب الذكريات بشأن فقيده فلم يفتحه الرجل إلا في حدود المسموح ولم يسمعه أحد يضع الفروض أن لو كان هشام حياً لكان كذا وكذا ...
وقد كان يحلو له كل شيء ويحلو معه كل شيء ... فيحلو لك أن تشاهده وهو يرتدي الثوب الأبيض في كل جمعه ليصلي في مسجد الشيخ " بخيت " في ميدان حلميه الزيتون والذي يبعد عن شارع المهدي عشر خطوات كما يحلو لك أن تشاهده وهو يمزج السمات الشرقية بالالتزام الديني مع احترام حرية الآخرين في وعاء واحد داخل بيته ومع أسرته – فلم ينشأ غريباً عن مجتمعه إنما ظل رغم صعوده على سلم السياسة والحكم محترماً أصوله الشرقية حريصاً على انتظام بيته ضعيفاً أمام أمه ضعف رحمه وتقدير كل ذلك في وسطيه رائعة نبعت من نفس سويه .
وإذ يأتي الحديث إلى ذكر أمه الحاجة مبروكة زعتر بنت نكلا العنب بحيرة .. فهو حديث البر الصادق ... فقد تربى المشير أبو غزالة بين أب يعمل بهيئة البريد وأم من الطراز المصري النادر والأم هي التي صاحبت الطالب الصغير " محمد " كما صاحبت المشير " محمد عبد الحليم أبو غزالة " ... حتى آخر أيامها .
لم تكن القبلة التي يضعها على يدها إلا عنواناً لمرحلة تاريخية ساهمت فيها أمه بالنصيب الأكبر ... وقد ماتت الحاجة " مبروكة " رحمها الله منذ عشر سنوات أو يزيد قليلاً ويروي الذين حضروا لحظاتها الأخيرة أنها كانت تخص بالدعاء ابنها " ثروت " رغم تقدم العمر بها واختلاط الأسماء لديها والأم لا تكثر من الدعاء لأصحاب المناصب من أبنائها وإنما تكثر من الدعاء لأصحاب القلوب منهم .
وإذا ما عدنا إلى الطفل الصغير وقد نما حتى المرحلة الثانوية فهو يتحسس الأخبار لعله يعرف متى يأتي إلى بيتهم " عمو ثروت " فإذا ما عرف الموعد دعا كل الأصدقاء المحترمين في المرحلة الثانوية وقليل ما هم ذلك لحرصه على أن يبدو محترماً أمام " عمو ثروت " ولك أن تقول إنما يريد أن يبدو محترماً أمام الزملاء والأقران أيضاً – ويجلس المراهقون أمام الرجل وهم في أشد حالات الانبهار – ولم يكن ذلك الانبهار بالنسر أو بالنجوم التي وضعتها الرتب على الأكتاف وإنما كان الشيء الأخاذ هو ذلك البريق الذي يشع من عين الرجل بالذكاء والتواضع في آن واحد – فحينما تكون الجلسة " جلسة عيال " يرتقي بها الرجل في حديث جميل حول الوطن والمستقبل وأطماع اسرائيل فتتحول الجلسة بقدرة قادر إلى " جلسة كبار " وكبار جداً كمان – والأعجب أن هذه المجموعة من المراهقين ظلت تحفظ كلمات الرجل وترددها حتى بعد أن تجاوز الواحد منهم سن الخمسين .
إن الملفت للنظر هو قدرة الرجل في أن يتحدث عن الموضوعات العظام فيوصلها إلى الصغير بصياغة يفهمها وإلى الكبير بصياغة تليق به ...
إن المخزون الثقافي لدى الرجل يصعب أن نحصره في مقال ... إلا أن المؤلفات التي كتبها فضلاً عن التراجم لتشير إلى ذلك المخزون العلمي ومدى تنوعه ... فقد كتب عن المصطلحات العسكرية وعن فنون الحرب وعن الانتصارات العربية في صدر الإسلام وعن الحرب العراقية الإيرانية مؤلفات عديدة ...
وإن شئت فلنخص بالذكر تلك الأجزاء الأربعة التي صدرت تحت عنوان تاريخ " فن الحرب " ... وهي عمل موسوعي رفيع المستوى فضلاً عن دراسته الرائعة لحرب الصحراء ومؤلفه عن حرب الخليج الثانية وعلاقتها بالأمن القومي .
ولأنه كان يبشر بنصر أكتوبر منذ زمن بعيد ... فضلاً عن كونه أحد فرسانها تخطيطاً وتنفيذاً فقد كتب عن دور المدفعية التاريخي كتاباً بعنوان " وانطلقت المدافع عند الظهيرة " ... ولعل الذاكرة تسعفني في أسماء بعض التراجم وهي عديدة منها ترجمة عن استخدام الطرق الرياضية في الحرب الحديثة ومنها ترجمة كتاب " بعد العاصفة " فضلاً عن الترجمة الشهيرة للكتاب القيم " الحرب وضد الحرب " وهو يتحدث عن أسرار وعوامل البقاء في القرن الواحد والعشرين .
لقد وضع المشير " أبو غزالة " أيضاً مقدمة موجزة لكتاب " نصر بلا حرب " الذي ألفه الرئيس الأمريكي السابق " نيكسون " إلا أني اعتقد أن في مقدمته كانت الإشارة إلى مفتاح فهم حقيقة الكتاب وقد استعرت من مكتبته كتاباً عن غاندي وعنوانه " هذا مذهبي " وبالمناسبة فلم أرده له حتى الآن وكان ذلك منذ ثلاثين عاماً تقريباً .
وكان " أبو غزالة " يتخير لهوايته ما يتفق مع مواهبه ويأنس إلى لعبة " الشطرنج " فكان ينهي دور الشطرنج في دقائق معدودة وكنا نبطيء من حركة اليدين حتى يطول الوقت الذي نمضيه ونحن نتقمص شكل الأنداد له أمام رقعة الشطرنج فيفخر الواحد منا بأنه أطال الدور أمامه لعشر دقائق مثلاً أو يزيد ... وإذا ما غبت عنه لدقيقتين لتعد فيها كوباً من الشاي للضيف العزيز فتعود إليه وهو يلقي بالجريدة أرضاً وقد صرع الكلمات المتقاطعة بأكملها فلا تجد بها خانة بيضاء إلا وقد طعنها بسهم المعرفة ...
وفي حرب أكتوبر 1973 كان الشباب يتناقلون أخباره كما يتناقل الناس روايات " الشاطر حسن " الذي قهر " أمنا الغولة " ولأن الغولة لم تكن أمنا يوماً ما فقد قهرها رئيس أركان المدفعية وقتئذ مع صحبه طاهرة من أبناء مصر المخلصين ... فلم يعد من الجبهة زائراً لبيته شأنه شأن الجنود جميعاً – حتى عاد المشتاقون إلى ذويهم فعاد مع عودة أقل الرتب ... في مساواة هي من قبس الأنبياء .
وإذا كان بين البشر صلات قربى فإن القيم الإنسانية بها أيضاً صلات قربى ... أو تلازم فإنك تجد صفة التواضع دائماً وهي تلازم صفة العدل والمساواة في أي نفس بشرية... وتجد أن من المساواة عدم استغلال النفوذ والبعد عن التربح ... وأن من العدالة ألا يرتقي الإنسان على غيره أو ينتزع حقاً من الآخرين استغلالاً لنفوذه وكل هذه السمات قد التقت في شخص المشير " أبو غزالة " ولم يكن " أبو غزالة " إلا هذا الطراز الذي نأى بنفسه عن استغلال النفوذ أو التربح أو الإثراء غير المشروع ... ومما أذكره في هذا المجال أن مذيعه في تليفزيون " أبو ظبي " أرادت أن تسجل معه حديثاً في بيته ... ولعل ما دار في خلدها ولم تحدث أحداً به أنها كانت تتطلع إلى رؤية قصر المشير " أبو غزالة " بعد أن انتهت مسئولياته الوزارية ... بل إنها كانت تبحث عن الأثاث الذي تم استيراده من " ايطاليا " خصيصاً لهذا البيت حسبما كان يردد الحاسدون وضعاف النفوس وأجرت المذيعة حديثاً تليفزيونياً بشقة المشير " محمد عبد الحليم أبو غزالة " في مدينة نصر ..... وإذ تجد المذيعة ذلك التواضع في كل شيء ... والذي يبدأ من سلم العقار حتى حجرة استقبال الضيوف بمنزله فتنقل هذه الحقيقة في بث تليفزيوني يبعث على الفخر ... أذاعته عده قنوات فضائية إلا قناة مصر طبعاً .
وقد انتمى إلى مدرسة الالتزام الأخلاقي ولداه " طارق " و " أشرف " وعلى ذات النهج من الابتعاد عن استغلال النفوذ.. هذا وقد تخرج الأول منهما من كلية الطب بينما تخرج الثاني من كلية الطيران وما عرف الناس عن واحد منهما استغلالاً للنفوذ أو الإثراء الحرام .
وقد نالت أم المشير " محمد عبد الحليم أبو غزالة " حظها من قيمة المساواة ... فكان من أمرها وهي أم وزير الدفاع ونائب رئيس الوزراء أن تدخل مستشفى الحلمية العسكري لتعالج من آلام في " الركب " شأنها شأن الأمهات جميعاً ... واسر الضباط على قدم سواء وللعلم فقد ماتت رحمها الله في مستشفى " مصطفى كامل " العسكري بالإسكندرية ولم نسمع عن امتيازِ واحد منحته إدارة المستشفى لها حيث كانت تعالج من أمراض عديدة.
وأعود لأسأل القاريء متى شاهدت أفراح المشير في الصحف أو المجلات ...؟! إنه يا صديقي قد دفن أخباره جميعاً في عشه الذهبي وعزف على أوتار البعد عن المهاترات ومجون الشهرة... برصيد من الخلق والثقة بالنفس
وإذا كان لنا أن نتحدث عنه في بيته فلن نتحدث إلا من جانب واحد حتى نعرف كيف كان الرجل المقاتل والذي أنفق عمره في حروب عسكرية لا يعرف شيئاً عن عسكره البيوت ... ولا يحب هذا النوع من التعامل إذ لم يكن في بيته من أنصار " تمام يا فندم " بل لعل أقسى القرارات التي أتخذها ري بيته كان قرار " الريجيم " الذي فرضه على نفسه فاستطاع التعامل مع السعرات الحرارية بصورة قد هذبتها من فرط ما تحكم فيها ... وكان من أقسى قراراته أيضاً على نفسه أن يستمر في خدمة سلاح المدفعية رغم إصابته بالالتهاب في " الأذن الوسطى " فلم يمنعه ذلك المرض من مواصلة التعامل مع المدافع فإخلاصه للعمل وللمدفع كان أعلى من إخلاصه لأذنه الوسطى .
وتمر السنون وترتقي مصر بالرجل حتى أصبح ملحقاً عسكرياً في الولايات المتحدة الأمريكية فكان يعود من مهمته ليوزع الدقائق بين بيوته الأربعين فلا يجور حق أسرته على حق الرحم ولا ينسيه الاشتياق إلى أبنائه حق الوفاء لغيرهم .
وعاد أبو غزالة من رحلته إلى أمريكا ليكون نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للدفاع ولم يغب عن ذهنه أنه لم يملك سيارة في حياته حتى تخطى رتبة اللواء وربما كان أعلى من ذلك حين تملكها وإن كنت لا أذكر ماركة السيارة ولا سنة صنعها إلا أني أذكر يوم دخولها من ميناء بور سعيد وهي تسدد كامل جمركها بالقرب من عام 1980 .
إن هذه الحقيقة هي التي دفعت الوزير محمد عبد الحليم أبو غزالة أن يحقق حركة الاكتفاء للضباط الشبان ليملك الضابط سيارته وشقته وكرامته في آن واحد .
إن البر الذي اختزنه " أبو غزالة " لأمه كان يفرض نفسه على أسرته وأسرة زوجته وأبناء قريته وكل من كان في ذيل أسمه " غزالة " ولو كانت غزالة مضروبة ...
ويمتد البر إلى أبناء قريته " قبور الأمراء " بالدلنجات – محافظة البحيرة والتي تحول أسمها بعد ذلك على يديه إلى " زهور الأمراء "... وهذا التحول هو الذي يفسر لك ذلك الاستقبال الشعبي الذي كان يستقبل به الفلاحون البسطاء ذلك الرجل وحتى يومنا هذا كما حرص على أن يقيم لهم دور العلم والمعرفة وأذكر أن قصده الناس لبناء مسجد بقريته ففضل أن يبني مدرسة يتخرج منها المصلون ...فكان المعهد الأزهري وهكذا كان أبو غزالة بعيد الفهم ... راسخ الاعتقاد.
ولم يفلت منه عزاء أو واجب أو مناسبة إلا وقد أداها حقها وهو الشاهد الفعلي على كل زيجات العائلة إلا زيجة واحدة جمعت بين كاتب هذه السطور وبين أبنه أخته إذ لم تكن هذه الزيجة رهن موافقته الفكرية وقتئذ إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يعطي الرحم حقه وزيادة فلم تأخذه عزه الانفعال بالرأي إلى التشدد أو الإقلال من الحقوق .
إن هذا الحديث يجرى بنا إلى العدالة ... والبر جزء منها فهل رأى أحدكم المشير أبو غزالة وهو يعتلي منصه القضاء ؟!أما أنا فقد رأيته بعيون الزملاء من المحامين وكان ذلك اثر تعديل تشريعي صدر في عام 1989جعل من وزير الدفاع قاضياً ينظر بنفسه في تظلمات المفصولين من الخدمة العسكرية – فكان المحامون يحكون عنه قاضياً لا يعرف الانفعال فيستمتعون بالجلسة الوحيدة التي تعقد برئاسته كل عام أو أقل قليلاً ... ولم تعرف منصه القضاء قاضياً يظل مبتسماً طوال الوقت إلا المشير أبو غزالة.
وفي النهاية فإن من الإنصاف أن نذكر للتاريخ أن المشير " أبو غزالة " كان يملك مفتاحاً لحل العديد من المشكلات التي تعاني منها مصر وإن كنت لا أعرف تحديداً ما الذي حال بين أن ينعم الناس ببذور معرفته وأن تتحول هذه البذور إلى واقع يحياه الناس فقد حدث أن استضافه التلفزيون المصري ذات مرة أو قل إن شئت لمرة وحيده – فتطرق الحديث إلى حل مشكلة الخبز في مصر والذي كان شحيحاً وقتئذ ... وإذ يتحدث وزير الدفاع في أمر من أمور الاقتصاد فيجده الناس فارساً في السياسة والاقتصاد والحروب معاً... ومما لا يعرفه الناس أن الرجل قد أتم دراسته في كلية التجارة وحصل على بعض الدراسات العليا في فروع لا أذكرها الآن .
المهم أننا استمعنا في هذا البرنامج إلى كلام علمي مدروس من فلاح متفهم ومن اقتصادي مدبر ... صحيح أن شيئاً مما قاله لم يطبق في الواقع المصري لكن الأصح أن الأزمة قد تعقدت لأن أحداً لم يستجب له ومازالت تلك المشاكل التي ناقشها التلفزيون المصري في هذه الحلقة الوحيدة مدفونة في أدراج ماسبيرو بل إني لا أجاوز الحقيقة حينما أقول إن الحلقة بأكملها قد دفنت في أدراج ماسبيرو. ويبقى السؤال لماذا يظل أسم " أبو غزالة " مطبوعاً في عقول وقلوب الناس حتى الآن ؟! ولماذا يتغنى بهذا الاسم ضباط مصر حتى الآن ؟! ولماذا يصر سائق التاكسي على أن يسمي مدينة الزهراء في حلميه الزيتون بمدينة " أبو غزالة " ويسمي عمارات الضباط في كل مكان بعمارات " أبو غزالة " حتى الآن ؟! ... ولا أكون مبالغاً إذا ما قلت أنه لم يعلق اسم بأذهان البسطاء من حكام أو وزراء مصر مثلما علق اسم ... المشير " محمد عبد الحليم أبو غزالة " بقلوب المصريين .
والعلم اليقيني عندي هو أن الناسك قد اختار الخلود إلى معبده ... وأن المشير " محمد عبد الحليم أبو غزالة " قد اكتفى بما وضعه من بصمات وعلامات على صفحة مصر وتاريخها وهو يعيش حياة هادئة بين القراءة والرياضة ولعلي لا أذيع سراً فقد نقل لي أحد الأصدقاء أن المشير " عبد الحليم أبو غزالة " فضل أن يحمل لقب " الوزير السابق " عن أن يكون مستشاراً عسكرياً لدولة عربية ذلك أن المال لم يكن ضمن حسابات " أبو غزالة " ...
حقاً ... لم يكن أبو غزالة محطة قطار مر عليها المسافرون ولكنه كان منتهى حلم العاشقين في صفاته وتواضعه وسطور حياته ... حتى وإن فرضت عليه الظروف أن يكون ضمن منظومة لها أو عليها فقد ظل هو الأنصع فيها ... وظل هو النداء المتكرر الذي يدعونا دائماً إلى الأفضل وأحمد الله أن مكنني من ذكر تلك الحقائق فإن في الأعناق حقوق وديون وأعلى هذه الحقوق أن نعطي لكل ذي حقه .
أسكنه الله الفردوس الأعلى
وإنا لله وإنا ليه راجعون
منقول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق