قراءة في كتاب طوق العمامة
عرض/ محمد تركي الربيعو
يسعى أستاذ علم الاجتماع اللبناني د. وضاح شرارة في هذا الكتاب إلى
تقديم قراءة مغايرة للتمثلات السياسية الحالية لجمهورية "بردة النبي"
الإيرانية، وذلك من خلال إبراز النسق الطقوسي الميثولوجي (الأسطوري) الثاوي وراء
سلوكيات عيال الثورة الخمينية، والتي يتساهل البعض في تأويلها بكونها تعبر عن
مضامين فارغة، بينما تثير الحيرة والدهشة لدى البعض الآخر، وخاصة في ظل
السياسات الجنونية والتي يصيغها القائمون داخل أروقة الحسينيات الخمينية.
ولذلك بدل الحديث في
البنيات الاجتماعية والسياسية والتي شغلت بال معظم الدراسات حول إيران، فإن الكاتب
يقترح عوض ذلك، فهم السلطوية والسياسة الخارجية الإيرانية الحالية، من خلال
التنقيب عن أصولها الثقافية في المرجعية الشيعية الأمامية، بما يساهم في تقديم
مساهمة إضافية في حقل الأنثروبولوجيا السياسية، والذي عادة ما يركز على الأبعاد
الرمزية والطقوسية ذات المنحى الميثولوجي للفعل السياسي، والتي بقيت أدواته
المعرفية تعاني من هامشية كبيرة في حقل الدراسات السياسية المشرقية العربية.
مع أن العديد من
الباحثين الغربيين في تاريخ الفكر السياسي المعاصر، يرون أن هذا الفكر كثيرا ما
يستعير بواعث التعبير عن نفسه وتجربته من الميثولوجيا الدينية القديمة.
الميثولوجيا والسياسة الخارجية الإيرانية
يشير
الكاتب في هذا الفصل وبحس ذكي ورائع إلى حادثة مثيرة للغاية، تظهر كيف أن المجتمع
الإيراني المعاصر في ظل قيم الحداثة والعقلانية السياسية تجره طائفة من "جند
الإمام المنتظر" ليعيش في قلب الأساطير الدينية القديمة التي أخذت تتحكم في
أقداره ومصيره كما لم يتم في أي وقت من التاريخ الإيراني المعاصر والذي يتحول من
خلاله الواقع إلى أسطورة، والأسطورة إلى واقع.
حيث قام الرئيس
الإيراني أحمدي نجاد بعد انتخابه عام 2005 بتسمية 4700 ساحة عامة من ساحات مدن
ايران وبلداتها وقراها بأسماء مقاتلين من الحرس الثوري ممن سقطوا في أثناء القتال
على الجبهة الإيرانية العراقية.
وبرأي د. شرارة فإن
علياء صور الشهداء المقاتلين على المدن والبلاد والساحات وضحك الموت في شفتيهم
ضحكا أقرب إلى لوعة الحزن، قد تشبه هذه الحاق المدينة بمقبرة أمواتها. وهو ما يذكرنا
ويعيدنا لبعض الأحاديث التي يرويها المحدثون الشيعة عن كبار أصحابهم ويرفعونها إلى
النبي كما في شأن حديث "الأمة العالمة" عند كبير محدثي الإمامية وشيخهم
الصدوق ابن بابويه القمي المتوفي سنة 381هـ.
والأمة العالمة على قول
المحدث، هي نهاية مطاف ذي القرنين بالأرض الذي يجري الله على سنته (المهدي
المنتظر) والذي ما أن بلغ تخومها المرئية حتى "وجد أمة مقسطة
عادلة" وآية قسطها وعدلها أن ساكنيها يحكمون بالعدل و"قبور موتاهم
في أفنيتهم" وليس لبيوتهم أبواب والتي هي قرينة على الحاجز والافتراق،
وأمارة على المرتبة.
ولذلك فهم اجتماع
لا يتماسك بالسياسة، ومراتبها وتفاضلها ودولها وحواجزها وقضائها، بل من طريق نصبه
الموت في وسطه وبجوار بيوتهم ودورهم، وإذا سألهم ذو القرنين وهو القادم من
عالم نقيض لعالمهم حول السبب في وجود قبورهم في أفنية بيوتهم أجابوا
"فعلنا ذلك عمدا لئلا ننسى الموت.....".
ولذلك -يرى الكاتب- أنه
إذا كان ذو القرنين إرهاصا بالإمام الثاني عشر صاحب الزمان ومهدي هذه الأمة،
فالأمة العالمة إرهاص بشيعته المقيمة على انتظاره، ولذلك لا يشك أحمدي نجاد ولا
وليه الفقيه وإخوته الحرسيون من الباسيج في أنهم وارثو المدينة الفاضلة هذه وينحدرون
من أصلاب أهلها.
ومن هنا قد تكون صور
الحرسيين وأسماؤهم على جدران الساحات الكثيرة وفي أعاليها، صدى من أصداء الأمة
العالمة. وتعمدها ذكرى موتاها ونصبها إياهم ميزانا ومثالا، ونفيها السياسة
ومراتبها وقضائها ومشاغلها الدنيوية والعالمية من اجتماعها، واستباقها عدل الإمام
العادل وتراحم مدينته ووحدة حالها وكلمتها.
بيد أن عودة الأمة
العالمة والفاضلة إلى المدينة الجاهلة والمنافقة تقتضي احتفاظ الأمة بركنها
ورعايتها هذا الركن، وهو مكانة الموت والموتى من اجتماعها ومن نظامه وعقده وحملهم
على باب "الشهداء الأحياء" وتصدرهم المراتب بعد جمعهم هم ومن ينتظرون
الشهادة في أجسام أو أسلاك قتالية واقتصادية وبيروقراطية، ليست زخرفا خطابيا وحسب.
فتذكر الموت والموتى ونصب هذا التذكر مبنى الاجتماع وركنه ومحوره،
ومحاولة اتقاء الحياة وصروفها ومصائرها بواسطة التذكر هذا ومن طريقه، إنما الغاية
منها هي نفي السياسة وتطهير الاجتماع منها ومن منازعتها وأعمال الرأي والتدبير في
شؤونها.
والحق أن التشيع
الإمامي برأي الكاتب لا يتستر على معنى قوله بالإمامة والوصاية
والاصطفاء وحفظ الميثاق وتواصل الذرية بعضها في بعض وتجريدها من الاختيار. وتخليص
الإمامة أو الولاية وفروعها من الأعمال والرئاسة والتدبير، من الاختيار والرأي
والاقتراع. وما لم يكن الاقتراع مبايعة تزكي ميل الإمام إلى "أحد المرشحين،
رئيس جمهوريتنا الخدوم والكادح والدؤوب المعتمد" على قول خامنئي في أحمدي
نجاد، لم تتخلص "الأمة" من المنازعة والسياسة وأهوائها ومسارحها. وإذا
استحال على "الأمة " أن تتماسك بجبانة موتاها، واستضافة تذكر الموت في
مباني الاجتماع وأركانه وعلاقاته، على حدة من صخب العالم وفتنته وأهوائه، فقد توجب
عليها اقتحام العالم هذا وانتهاج سياسة ذي القرنين فيه وسنته قبل
"صلاحه" ونزوله. وبالتالي على الأمة العالمة والحال هذه أن تخرج من
مدينتها واعتزالها وتشن حربا "عالمية" أو "كونية"
على المدائن الطاغوتية والجاهلة.
وبرأي الكاتب فإن هذه
الرؤية ذات المنحى الميثولوجي تترجم ملفا نوويا، وتخصيبا، وتصديرا للثورة، وعمليات
أمنية تخريبية في دول الجوار وثأرية في الأقاليم البعيدة، وتظاهرات ومواكب مليونية
وإفسادا جماهيريا وحروبا هنا وهناك.
العيد وتجديد النظام الخميني
يعتمد
الكاتب في هذا الفصل وبحكم مرجعيته المعرفية على عدد من المفاهيم في حقل
الأنثروبولوجيا الاجتماعية حول العيد وطقوسه الدينية والسياسية. فالعيد برأي
العديد من السوسيولوجيين في المجتمعات القديمة أمثال روجيه كايوا في كتابه عن
"الإنسان والمقدس" يمثل فترة تعليق حقيقي لنظام العالم، حيث يسمح
فيها بالتجاوزات وبخلاف القوانين، كما يتم عمل كل شيء بالمقلوب.
ومن وجهة نظر نفسية فإن
الطبيعة وكذلك المجتمعات تمر في كل طور زمني بفترات نمو وانحطاط، مما يفترض بها أن
تتجدد وتتطهر. ومن هنا تأخذ الآلهة على عاتقها مسؤولية البحث عن كائن يستطيع البشر
من خلاله التطهر وذلك بالبحث عن "أضحية دينية" لذبحها بوصفها كبش
فداء يجري تحميله كل الذنوب المرتكبة وخاصة في زمن المواسم الدينية، أو من خلال
البحث عن "أضحية سياسية " حينما تعتمد الجماعة السياسية على فضاء العيد
وطقوسه في تجديد شرعية النظام السياسي وحيويته.
وضمن هذه
المقاربة يقدم الكاتب رؤية جديدة للحظة الانتخابات الإيرانية عام 2009، يوم
أدرك إستراتيجيو النظام وفطنوا عن دراية وحدس سوسيولوجيين إلى أن دليلهم الأقوى
على مزاعمهم في موالاة الإيرانيين للثيوقراطية الخمينية المسلحة هو إشراك الشرائح
العازفة والمتحفظة على السياسات الاجتماعية والاقتصادية في العيد الانتخابي. وذلك
من خلال القبول والرضوخ لشروط احتفال وطني صاخب وحر، ينسى الناخبين وعلى الأخص
فتيانهم وفتياتهم وجمهور وسائل التواصل الاجتماعي أعوام أحمدي نجاد وخامنئي
السياسية والدعاوية والنووية الثقيلة.
ولذلك فقد ارتضى دعاة
الأجهزة الصلبة في هذا السبيل إعلان حالة طوارئ مقلوبة واستثنائية طوال نحو
أسبوعين، فتركوا للجمهور الذي نشأ وشب على هدهدة الحكاية الخاتمية الإصلاحية حبلا
طويلا على الغارب. وعندما حل مئات المراسلين والصحافيين الغربيين ربوع إيران
طوال عشرة أيام معدودة وكانوا منعوا عمليا من ارتيادها في الأوقات العادية،
فاجأهم الإيرانيون باحتفالاتهم اليومية وأعيادهم المخالفة على نحو حرفي
"عاشوراء" الصفوية والخمينية وتعمدهم الرد على شعائرها.
فعلى نقيض الأسود طليت الوجود والجدران والسيارات بالأخضر الفاتح
والفاقع، وتركت العامة تحتفل بـ"كرنفالها " الانتخابي من خلال قلب
الدنيا والعادات والسنن الشيعية الثورية رأسا على عقب على ما يجدر الأمر بالأعياد
وتبديدها في أيام قليلة خزائن أعوام طويلة من الإمساك والمراكمة.
ثم جاءت المطارحات التلفزيونية بين نجاد ومير حسين موسوي لتظهر
الأخير من خلال الشاشة الإعلامية التي يعلم أعيان الخمينية حق العلم أنها مجلجلة هامات،
ليتقبل شطر كبير من الشرائح الاجتماعية الفقيرة رأي أحمدي نجاد الذي استعار بواعث
التعبير عن نفسه من رؤية ميثولوجية لخصمه السياسي بوصفه ذاك الوحش الليبرالي الذي
تقوده جحافل العدو ضد "مدينة الله" الإيرانية، ليصبح مقتله أو استبعاده
في أفضل الأحوال تحقيقا لنبوءة قدوم "الملك فيروز" البطل الملحمي
الفارسي وعدله والذي يجسده ابن الحداد (نجاد).
وبذلك تحول موسوي إلى "قربان سياسي" حرصت من خلاله
الجماعة السياسية الخمينية على تطهير نفسها من الدنس الذي لحق بالمجتمع الإيراني
جراء تأثرها برياح الحداثة "الصهيونية".
المصدر : الجزيرة