الخميس، 27 فبراير 2014

ما هو دور المثقف في بناء المجتمع؟


ما هو دور المثقف في بناء المجتمع؟ 
لطيف بولا

المثقفون، وليس دعاة الثقافة!، هم مصابيح نور، على ضوء ثقافتهم يتلمس المجتمع طريقه نحو التحرر والعدالة والتطور. والثقافة ليست ثوباً يرتديه كل من هبّ ودبّ، أو مساحيق يُراد أن يتزوق بها، وليست بالقصور الفخمة والعربات الفارهة، بل بالفكر المثقف والسلوك القويم الذي يرشده عقل مشبع بالعلوم والآداب والفنون.
والمصدر (ثقافة) في اللغة مشتق من الفعل (ثقفَ ثقفا) أي صار حاذقاً. وإذا قلنا (ثَقّفَ الرمحَ) أي قَوّمَهُ وسوّاهُ. و(ثقّفَ الطالبَ) هَذبَهُ علّمهُ، فهو مثقف. والثقافة كما قلنا هي التمكن من العلوم والفنون والآداب. عليه فالمثقف مهيأ نفسياً وعقلياً لبناء مجتمع صالح عادل راق متطور، لأنه مُتنور ومُتحرر من قيود الجهل، ومُتعافي من أمراضه كالتعصب والأنانية والعدوانية. ولو لم يكن هكذا، لما بحث وسهر وتعب شهوراً وأياماً يصقل بعقله وفكره، يبحث عن الحقيقة هنا وهناك، يواجه الباطل في معسكر الجهلاء، ليحترق كالشمعة، يضيء بعلمه وثقافته طريق المجتمع.
لقد عانى المثقفون عبر التاريخ من شرور الجهلاء والحكام الطغاة الرجعيين المتعشعشين في دهاليز الجهل والتخلف. وأول اولائك المثقفين هم الأنبياء والأولياء والثوار الأحرار، الذين قاوموا الظلم والظلام بعلمهم ومعرفتهم بقوانين الطبيعة والمجتمع والتطور. وقد أثبتت الأيام أن من يفهم التاريخ هو المنتصر، ومن يقف ضد منطق الحياة ينتهي الى مزبلة التاريخ. ولا يمكن للانسان أن يقف ضد الأشرار والسلاطين الطغاة، ويناصر الشعب ويتبنى قضاياه العادلة، ويطالب بحقوق الانسان حيثما كان، إلا إذا بلغ به الوعي الى مستوى يجعله لا يتحمل الظلم والظلام، ليس على نفسه فحسب بل حتى على الآخرين أيضاً، فيطلق صرخته بوجه الظلم ويقرع نواقيس اليقظة لينتبه اليه المغفلون ويلقي بأفكاره النيرة ليهدي من ضلله الظلام فيتبعه المجتمع ويحاربه الطاغوت وأعوانه، وقد يدفع ثمن هذا الواجب الانساني حياته.
وعلى هذا الطريق سار الأنبياء والمصلحون والفلاسفة والعلماء والثوار الأحرار وحملوا على عاتقهم مسؤولية التطور وانقاذ الانسان من شرور التخلف. ورغم التضحيات الجسام، استطاعوا تحرير المجتمع الانساني من عهود العبودية وأسقطوا العروش وشيدوا صروح العدالة وسنوا القوانين، وانتزعوا الحقوق وأوصلوا البشرية الى ما هي عليه اليوم من تقدم ورقي. ولولا تلك الجهود وتلك التضحيات الجسام لظل حال البشر كما كان عليه في عهد الرق والعبودية، ولكن لا زال ثمة ظلم وحقوق مهضومة، وهنالك الكثير على المثقف أن يعمله، وخاصة في مجتمعاتنا التي تعاني من بقايا عهود الظلم والتخلف والتفرقة والتعصب والعنصرية.
ان جنود الظلم والظلام وأعداء الثقافة والعلوم والفنون لا يستسلمون بسهولة، بل يسيرون بعناد على عكس التطور، ويحاولون ايقاف عجلته بل تحطيمها، ولا زالوا في هجوم هستيري، إذ يرون قلاعهم الورقية تتهاوى أمام شمس العلوم والثقافة والفنون، إلا أن تراخي المثقفين واهمالهم لواجبهم الوطني والانساني وانشغالهم بمظاهر الحياة والاغراءات المادية يؤدي كل ذلك الى تأخير بناء المجتمع، ذلك البناء الذي يتمناه المثقف، مجتمعاً متآخياً يسوده الأمن والسلام والمحبة ومشاريع العمران والصناعة والزراعة، لكي نقطع دابر الفقر الذي هو سبب لكل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
نريد أن يكون للمثقف الدور الريادي في عملية البناء والتنوير، ويتطلب الأمر شجاعة للصمود أمام المخربين والمفسدين وأهل الرشوة والتعصب والجهلاء عموماً. يجب أن يقف المثقف، العالم، الفنان والأديب، وقفة غاليلو وكوبرنيكوس، وقفة سبارتاكوس، وقفة جان جاك روسو وفولتير، وقفة محمد والمسيح، نصرخ بوجه الظلم والظلام والمخربين والمفسدين واللصوص الدجالين بصوت واحد وأمام الملأ: كفى تخريباً أيها الملوثون، دعوا قافلة التطور تسير الى الأمام قبل أن تسحقكم عجلاتها. فلا يمكن انتشال مجتمعنا من الضياع بالسكوت والتقاعس والمساومة والانتهازية والخوف من الإرهابيين المتغلغلين في كل مكان. فالإرهاب بكل أشكاله المستترة والظاهرة، هو الذي يشوش على الأمن وينشر التفرقة ويرتشي ويفسد ويقف بوجه البناء الاجتماعي ويحارب التقدم والتطور ثم يفجر نفسه ويقتل من حوله إذا لم يتمكن من تلويثه!. ومهما تفنن المشعوذون والمتخلفون والدجالون بأساليبهم المقيتة وتحت ستار الظلام، بامكان المثقف أن يعريهم أمام المجتمع ليرى الشعب زيفهم وعوراتهم النتنة. ألم تنتصر أفكار غاليلو وفولتير وروسو والأنبياء والمصلحون على أعداء التقدم؟ أليست المجتمعات معظمها تهتدي بأفكارهم العلمية والانسانية الى هذا اليوم؟ لكن البعض أبى إلا أن يلعب ورقة التخلف الخاسرة.
ومن تجربتي الخاصة في هذا المجال وحول دور المثقف في بناء المجتمع، ورغم كل الظروف الصعبة، كنت في أوائل السبعينيات من القرن المنصرم مدرساً للغة الانكليزية في ناحية واسط التي تقع (60 كم) جنوب محافظة واسط، وكانت وقتها ناحية صغيرة جداً والمتوسطة التي درستُ فيها تقع في الضاحية الجنوبية معزولة عن باقي البيوت، استطعت وبالتعاون مع زملائي الأفاضل من المدرسين والمعلمين، من جعل تلك المتوسطة الصغيرة منبراً ليس للعلم فحسب بل للفنون والآداب ولأفكار وطنية واجتماعية بناءة، فقد أسسنا مسرحاً وفرقة فنية. واكتشفت من بين الطلبة قدرات فنية وأدبية وعلمية ساهمت في انجاح نشاطاتنا ونشر أفكارنا. واستصحبت معي من بغداد آلاتي الموسيقية كالعود والكمان والناي، وكان فرح الطلاب شديداً، إذ سئموا من طريقة التعليم التقليدية وأساليب بعض المدرسين الدكتاتورية والتي كانت أقرب الى الأساليب العسكرية من الأساليب التربوية، ولم يكن للطلبة أن شاهدوا سابقاً آلة العود أو الكمان، فاكنوا يسمون العود (رطة) تشبيهاً بالسلحفاة التي تسمى في الجنوب (رقة) بسبب ظهر العود المحدب!، وألفتُ للطلبة أناشيد ومسرحيات وطنية واجتماعية كان لها وقعاً عظيماً في تلك الناحية وفي نفوس طلبتنا وذويهم بالذات، إذ كان الناس يتزاحمون ويقدمون العون لإنجاح عملنا، لأن ما طرحناه على المسرح كان يخدم المجتمع ربما أكثر من المدرسة، ويمس حياتهم ومشاكلهم، ويحثهم على الوحدة والتآخي والتحرر من التقاليد الضارة والبالية. أما طلبتنا الأعزاء، فقد برز من بين صفوفهم الممثل والعازف والمنشد والمؤلف.
ورغم كوني مسيحياً من القوش في نينوى، إلا أن المجتمع هنالك والطلبة خاصة كانوا يحترمونني ويقدرونني أكثر من غيري، لأنني قدمتُ لهم ما لم يقدمه غيري من حب واخلاص وفنون وآداب وموسيقى أنارت عقولهم. وهذا برهان على ان ما يزرعه المرء يحصده، وقد زرعنا حباً فحصدنا حباً. وفي أتون الحب تذوب كل المصاعب والمخاوف، فما أعظم الحب!. وقد حضر يوماً أحد المسؤولين ليشاهد نشاطاتنا على المسرح فتعجب لما شاهده، فقال لرفاقه: هذا الرجل المسيحي قدم من بغداد وأشعل ثورة فنية وأدبية هنا في هذه الناحية النائية، ماذا فعلتم أنتم لمجتمعكم وفيكم مائتا حزبي؟!.
أجل للمثقف دروه الخطير، عليه أن يؤديه، فمن كان مثقفاً ويريد أن ينال شرف مصطلح الثقافة، يجب أن يبني مجتمعه في كل الظروف وفي كل مكان، ينشر السلام والمحبة والاخوة والروح الوطنية والانسانية، لأن المثقف والعالم والفنان هو ملك المجتمع والانسانية، وهكذا كان غاليلو وانشتاين وأديسون والفلاسفة والأنبياء والكتاب التقدميين والانسانيين الذين كان همهم الوحيد همّ كل مثقف وهو نشر الأمن والسلام والمحبة وبناء مجتمع تسوده العدالة والاخوة والسعادة.
فما أحوجنا اليوم الى الثقافة وجهود المثقفين لبناء مجتمعنا العريق الذي مزقته قوى الشر في زرعها التعصب الأعمى والعنصرية والفرقة لاضعافه من أجل نهب خيراته وثرواته. ولتحقيق مآربها الشريرة، تحارب الثقافة في كل مكان، وتبعد المثقفين، وتزرع محلهم الزؤان لتفسد حقلنا الأخضر بالرشاوي والسلب والنهب. فهي ليست تؤخر تقدمنا بل تحطم مجتمعنا لتنهش عظامنا وتمزق لحومنا، فحذاري! حذاري! أيها المثقفون، إذا كان الأشرار لا يخشون من هدمهم لمجتمعنا فكيف يتوانى المثقف فيدرء شرهم ومن ايداء دوره في البناء. فلنشمر عن سواعدنا لبناء مجتمعنا إذا كنا مثقفين وليس دعاة!! ولا يفت في عضدنا الأساليب الإرهابية التي ذكرناها أعلاه، ولا نخشى في قول الحق وبناء الوطن لومة لائم.
- نشر المقال في جريدة بيت نهرين، العدد (128).

ليست هناك تعليقات: