تقرير «ساما» السنوي.. للتاريخ أم للمستقبل؟
في الزمن الذي تتحرك فيه الأحداث والتطورات الاقتصادية والمالية بسرعةٍ هائلة، لدرجةٍ أنْ عاماً مالياً واحداً في وقتنا الراهن، أصبح يضمّ في طيّاته من تغيراتٍ ما يفوق مثيلها خلال عقودٍ مضتْ من عمر الاقتصاد العالمي! أؤكد القول؛ في هذا الزمن المتسارع التقلبات والتطورات، لا تزال مؤسسة النقد العربي السعودي أسيرةً لتاريخٍ قديم عتيق جداً، يعود بها لنحو نصف قرنٍ من عمرها المديد أو أكثر! تجد قوام هذه النظرة البيروقراطيّة في التقرير السنوي الذي تصدره مرةً كل عام. مثال ذلك تقريرها السنوي الأخير التاسع والأربعون المؤرّخ صدوره في يوليو 2013، عَقد لأجله محافظها مطلع هذا الأسبوع مؤتمراً صحفياً، أي بعد ثمانية أشهرٍ من تاريخ صدوره!
ألقى محافظ المؤسسة خلال المؤتمر كلمةً افتتاحية "منشورة على الموقع الإلكتروني للمؤسسة"، أوضح فيها عدداً من التطورات الاقتصادية والمالية المحلية، مع الإشارة إلى أنّ ما ورد في المؤتمر يعتبر حديثاً عن إحصاءات جاء صدورها بعد تاريخ إصدار التقرير السنوي! ذلك أنّ أحدث البيانات السنوية التي أستعرضها التقرير السنوي الأخير للمؤسسة انتهتْ بنهاية 2012، وبالنسبة للبيانات النقدية فتصل إلى نهاية الربع الأول 2013، كما يجدر الإشارة إلى أنّ المؤسسة تصدر أيضاً خلال العام المالي الواحد، تقريرين كل ثلاثة أشهر "ربع سنوية"، التقرير الأول بعنوان: تقرير التضخم، يتطرّق إلى نشر تطورات التغير في الأسعار. التقرير الثاني: التطورات النقدية والمصرفية.
سيُلاحظ من يقرأ تلك التقارير، أنّها تتبع الأسلوب الوصفي، أكثر من كونه تحليلاً يضع التفسيرات والأسباب التي أدّتْ لحدوث تلك التطورات، والمقصود هنا "بالوصفي" أنْ تصف تطور سلسلة البيانات، إمّا أنّها ارتفعت أو انخفضتْ أو استقرّت، دون التعمّق في الأسباب التي أفضتْ إلى تلك التغيرات في البيانات، أو حتى الحديث عن الآثار المترتبة على تغيراتها، كما لا يوجد أي تقديرات مستقبلية لتلك المتغيرات، سواءً لعامٍ قادم أو حتى أعوام قادمة. بالطبع هذا الأسلوب "الوصفي" الرتيب، يُفقد التقرير كثيراً من فائدته كواحدٍ من أكبر المخازن المعلوماتية التي تضمّها تلك التقارير، والتي تُعد على الرغم من كل ذلك من أهم التقارير الاقتصادية المحلية الصادرة، كما يمنح مؤسسة النقد ميزةً إضافية عن غيرها من الأجهزة الاقتصادية والمالية لدينا، أنّها تكاد تكون الجهة الرسمية الوحيدة الأكثر انتظاماً في إصدار التقارير الإحصائية الشهرية وربع السنوية، وهذه تُحسب دون شك للإدارة القائمة عليها في مؤسسة النقد، ولكن
لماذا يجب أن تخلع مؤسسة النقد العربي السعودي - بوصفها الوظيفي "البنك المركزي" - رداء مجرّد "وصف" التطورات الاقتصادية والمالية والنقدية؟ وأنْ تتحرّك بديناميكية أنشطُ وأسرع مما هي عليه الآن، لتضع ثروة تلك المعلومات تحت مجهر التحليل والفحص، وأنْ تطرح رأيها التحليلي والمهني اقتصادياً ومالياً تجاه التطورات المحلية والإقليمية والدولية كافّة. هذا هو الدور التقليدي الذي تقوم به البنوك المركزية في أيّ اقتصادٍ حول العالم، سواءً في الوقت الراهن أو منذ سنواتٍ عديدة، وهو أيضاً ما نصَّت عليه المادة الخامسة من نظام مؤسسة النقد العربي السعودي الصادر قبل 58 عاماً، حيث وردتْ بالنص على أنْ: "تقوم المؤسسة بإنشاء دائرة للأبحاث، وظيفتها جمع وفحص كل المعلومات اللازمة، لمعاونة الحكومة والمؤسسة في وضع وتنفيذ السياسة المالية والاقتصادية التي تنتجها".
تنحصر الجدوى الوحيدة من تلك التقارير في مجرد كونها مصدرا تاريخيا للمراكز البحثية والباحثين والمتخصصين، وحصراً فالفائدة الأكبر تتركّز على البيانات الإحصائية المرفقة بالتقارير، فيما تنخفض الفائدة كثيراً أو تكاد تنعدم من النصوص الوصفية التي يكتظ بها التقرير، التي تبدأ إمّا بارتفع أو انخفض أو استقر! دون أيّ تفسيرٍ يُذكر للأسباب والعوامل التي أفضتْ لتلك التطورات، ودون أي توقّع للمستقبل القريب أو المتوسط أو حتى البعيد. بل إنّه من اللافتْ سواءً في التقرير السنوي أو في التصريحات الصادرة عن مؤسسة النقد، أنّها حينما تشير إلى التطورات المحتملة في المستقبل، غالباً ما تسندها إلى مؤسساتٍ ومنظماتٍ دولية كصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو غيرها من الجهات الأخرى، فيما تتحرّج كثيراً أنْ تعلن عن أي توقّع مستقبلي يمثّل رأي الفريق الاقتصادي لديها، والذي يضم نخبةً من الكوادر الوطنية المؤهلة تأهيلاً عالياً.
يجب أنْ تتصدّى مؤسسة النقد بموجب الأدوار التي أقرّها نظامها الأساسي، وكبنكٍ مركزي في البلاد، وقياساً على الكوادر الوطنية المؤهلة لديها، أؤكد أنّ عليها أنْ تتصدّى بالرأي والتحليل الاقتصادي الموضوعي للتطورات الاقتصادية كافّة، سواءً كانت محلية أو عالمية، وأنْ تضع تقييمها المحايد لتلك التطورات والمتغيرات، وأنْ تبيّن الآثار المترتبة بكل اتجاهاتها على أي منها في مقدراتنا ومواردنا الاقتصادية، وأنْ تنشر توقعاتها وتنبوأتها المستقبلية المحتملة، وتضع وفقاً لتلك النتائج والآثار المحتملة توصياتها ومقترحاتها.
لا تقف أهمية هذه المهام والمسؤوليات عند مجرد مبادرة مؤسسة النقد بالقيام بدورها المنصوص عليه نظاماً، بل يتجاوزه في أهميته القصوى ليبيّن للحكومة ومنشآت القطاع الخاص والمجتمع، الجدوى من عدمها تجاه السياسات والبرامج والإجراءات والقرارات التي تتحكم في مسار ومقدّرات اقتصادنا الوطني، وتضطلع بدورها الكاشف لأي خللٍ محتمل قد يتغلغل لأي سببٍ كان في أيّ من تلك السياسات أو القرارات، والعمل مبكراً على معالجته قبل أن تتفاقم مخاطره. هذا بدوره سيسهل كثيراً من مهام صاحب القرار، والجهات الرسميّة المعنيّة بتلك المتغيرات، إضافةً إلى كلٍ من المجلس الاقتصادي الأعلى ومجلس الشورى، والعديد من الجهات الرقابية، والمؤسسات المختلفة في القطاع الخاص ذات العلاقة.
أين رأي وتحليل مؤسسة النقد العربي السعودي من التطورات الجارية على مستوى كل من: (1) السوق العقارية والإسكان، (2) سياسات السعودة وسوق العمل والبطالة، (3) السوق المالية، (4) بيئة الاستثمار المحلية، (5) المتغيرات الديموغرافية والاجتماعية للمجتمع بكل شرائحه السكانية، (6) قياس مدى تحقق الاحتياجات الإنمائية على مستوى الصحة والخدمات البلدية والنقل والتعليم والتدريب والتأهيل، (7) أثر التحولات والأزمات التي يمر بها الاقتصاد العالمي في اقتصادنا ومقدراته وموارده، (8) تقييم خطط التنمية وبرامجها وسياساتها المختلفة، ومدى جدواها من عدمه، (8) تقييم كفاءة استهلاكنا لمواردنا من الطاقة بمصادرها المختلفة، والحلول المقترحة لرفع الكفاءة وتقليل الهدر فيها. هذه مجرّد أمثلة لا للحصر، تقتضي الاعتبارات المهمّة التي أُشير إليها أعلاه، أنْ تضطلع مؤسسة النقد وفقاً لدورها كبنك مركزي وبما نصَّ عليه نظامها الأساس، بمواجهة تلك المهام والمسؤوليات على أعلى المعايير المعمول بها دولياً، وألا يقف دورها عند "نقطة خارج الزمن" التي تقف عليها في الوقت الراهن، فهل سنرى خروجاً قريباً من هذه النقطة، أمْ سيدوم بقاء المؤسسة في قعرها؟!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق