الأربعاء، 14 يناير 2015

قراءة في كتاب:أليس الصبح بقريب؟


قراءة في كتاب:أليس الصبح بقريب؟

لفضيلة الأستاذ: محمد الطاهر بن عاشور


مؤلِّف هذا الكتاب مربٍّ وأستاذٌ فاضل، أقبلَ على الدراسةِ والبحث بعد أن اجتمعتْ له الوسائلُ الأولى للتعليم؛ كحفظ القرآن، وحفظ المتون العلمية في الكُتَّاب، ثم انتقاله لجامع الزيتونة الذي أهَّله ليكونَ أستاذًا من الطبقة الأولى، ثم رئيسًا لمشيخة جامع الزيتونة سنة 1945م، ومن هذا المنصب وضعَ خُطةً لإصلاح التعليم في العالَم العربي والإسلامي.

وقد تمثَّلت خطةُ الشيخ "محمد الطاهر بن عاشور" في كتابه: "أليس الصبحُ بقريب؟"، الذي ابتدأ تأليفَه سنة 1903م، وانتهى منه بعد ثلاث سنوات.

مهَّدَ في هذا المشروع الإصلاحي للتعليم بحديثٍ عن نشأة التعليمِ العربي وأطواره قبل الإسلام وبعده، مبيِّنًا أن "الإسلامَ انفرد من بين سائر الأديان بالتنويهِ بفضل العلم، والأمر بالاتصافِ به.. وبوضعِ رسومٍ للتعليم والتربية وتعميمِهما، والإلزام بهما"، ثم تحدَّث عن نشأة المدارس في الأمصار الإسلامية، مشيرًا إلى أن بدايتَها كانت في العصر العباسي، إضافة إلى المساجد وبيوت الكتاب، وبيَّن طرُق التدريس في هذه المؤسسات، والعلوم التي يدرُسها المتلقي في ذلك الوقت، ثم التأريخ لمراحل التعليم في كثيرٍ من الأقطار الإسلامية، مثل: مصر، وإفريقيَّة، والأندلس، وبلاد فارس.. مبيِّنًا أسلوبَ التعليم في هذه الأقطار، ومتناولاً طور التفكير العلميِّ، والمشاركة في العلوم.

وفي فصل آخر: يتناول ابنُ عاشور أسبابَ الضعف وتأخُّر التعليم، وعدم التطور الذي لحق التعليمَ في الأقطار الإسلامية، ويرى أن أسباب ذلك التأخر راجعةٌ إلى نوعين:
الأول: يرجع إلى الأسباب العامة التي قضت بتأخُّر المسلمين على اختلاف أقاليمهم، وعوائدِهم، ولغاتهم.

والثاني: يرجع إلى نظامِ الحياة الاجتماعية في أنحاء العالم التي تستدعي تغير الأفكار والقِيَم العقلية، وهذا التغيرُ قد استدعى تغير أساليبِ التعليم، ومقادير العلوم المطلوبة، وقيمة كفاءة المتعلِّمين لحاجات زمانهم.

ويرى الشيخ أنَّ ما أفضت إليه الأسبابُ من النوعين آتٍ من عدة جهات:
1 - جهة فساد النظام العامِّ للتعليم؛ وذلك لعدم وجود خطة تربوية متطورة، وعدم وجود نظام مراقبة يميز الصالحَ من غيره في التعليم، كما أن هذا النظامَ يسلب حريةَ التفكير والابتكار عند الطالب، منتقدًا قانون التعليم التونسي الصادر سنة 1876، الذي ينصُّ على أنه "ليس لأحد أن يبحث في الأصول التي تلقتْها العلماءُ.. ولا أن يُكثرَ من تغليط المصنِّفين..".

2 - جهة فساد التآليف؛ وذلك بهجر القرآن والسنَّة، وعدم تنظيم المؤلَّفات؛ لأنها لا تراعي مراتبَ التلامذة من حيث التدرُّج، أو من حيث نقلُهم من المعلوم إلى المجهول، ويرى أن هذا النظام قصَرَ العلمَ على نقل كلام السَّلف، وانحصار التآليف في نقل ما مضى من غير بحث، وأصبح المبتكرُ عُرضةً للاضطهاد، كما أن هذه المناهجَ تهمل التمارينَ والتدريباتِ العملية، ويضيف إلى فساد هذه التآليف طمعَ بعض المؤلِّفين في التأليف، وهو لا قدرةَ له على ذلك؛ مما أفسد التعليمَ وطالبيه.

3 - جهة فساد المعلم؛ وذلك بتقصير المعلِّمين في مسألة إصلاح العملية التعليمية، وسكوتهم عنها، كما أن أغلبَ المعلِّمين لا يرَون للتعليم إلا كيفيةً واحدة، هي التي تعلَّموا بها، معتذرين بأن بها رَقِيَ سَلفُنَا، وهذا السبب أيضًا يرجع إلى أن بعض المعلِّمين لا يُحْسِنون طرقَ التدريس؛ إذ يُطوِّل بعضُهم -مثلاً- درْسَهُ بالمسائل السطحية، ولا همَّ له إلا الْتقاطُ كلمات المؤلِّفين، ويرى أن انْقِباضَ المعلِّم وتكلُّفه وطريقةَ كلامه، وتجاعيدَ وجهِه - تُبْعِدُ ما بين الأستاذ والتلميذ، فتَحول دون النفع بعلمه، إضافة إلى ذلك أن بعض المعلِّمين يتعلَّقُ بسفاسف الأمور، ويُضْمِرُ الشرَّ لزملائه، ويرميهم بالتحقير، ويقنع الناس بعلوِّ درجته في العلم.

وبعد أن ذكر الشيخُ هذه الأسباب وغيرها - مما اختصرتُه - تناول رؤيتَه في الإصلاح التربوي، التي نذكر منها:
1- ضرورة ضبط جوانبِ التعليم؛ وذلك بجعله إلزاميًّا، مع ضبط أوقات التعليم، ومكانه.

2- ضرورة وجود خطة تعليمية، يُشرف عليها نخبةٌ من رجال التعليم، تعتمد المناهج التعليمية، مراعيةً التطورَ المستمر.

3- ضرورة الاهتمام بالتربية، وتقديمها على ما يتعلمه التلميذ من علوم؛ وذلك بغرس الفضائل في نفوس التلاميذ؛ كالنظامِ، والإقدام، والحزم، وعدم الكسل، وعدم الظُّلم والحسد... وغيرها من الأخلاق الحميدة.

4- ضرورة الاهتمام بالتلميذ وتشجيعه على الابتكار، وحرية النَّقد الصحيح في التعليم؛ لأن القصدَ من التعليم هو إيصالُ العقول إلى درجة الابتكار.

5- الاهتمام بالتمارين والعمل بالمعلومات، كما هو الغاية من كلِّ علم.

6- معالجة ضعف التلاميذ في اللغة العربية؛ وذلك بأن تُجعل لهم تمريناتٌ أسبوعية للنُّطق بالعربية، ويُمنع عليهم الحديثُ مع معلميهم بغيرها، وتُجعل لهم مجلةٌ ينشرون فيها ما تَجود به قرائحُهم.

7- تنظيم المناهج، ووضعُها حسب مراتب التلامذة بالتدرُّج الطبيعي، وبخاصة في كتب المرحلة الأولى، وضرورة ترك التقليد في إعداد المناهج؛ كي لا يصيرَ المتعلمُ عالةً على غيره.

8- أن يلمَّ المعلمُ بصناعة التدريس؛ حتى يستطيع التلميذُ فهْم الدروس بدلاً من الضجر الذي يصيبه، ويجب على المعلم أن يكونَ قدوةً لتلاميذه.

كما ناقش ابن عاشور في أجزاء كتابه كثيرًا من القضايا التي تهمُّ العملية التعليمية، كالفصل الذي عقده عن تعليم المرأة؛ إذ عرَض فيه تاريخَ تعليم المرأة في العصر الجاهلي، ثم العصر الإسلامي، وما بعده.

ويختم ابن عاشور كتابه قائلاً: "وقد تحقق العملُ بكثير من الملاحظات والمقترحات التي اشتمل عليها هذا الكتابُ، فأسفر بها وجه الصبح الذي رجوتُ له قُربًا، ولم أفتأ كلما وجدتُ فجوةً أن أرْتقيَ بالتعليم مرتقًى وإن كان صعبًا، حتى قلتُ إن الصبح أعقبَ بضحاه، ورأيت كثيرًا من الناصحين توخَّى سبيلَنا وانتحاه...".

ومن دواعي غِبطتي بهذا الكتاب وأمثاله أن تعليمَنا في الوطن العربي في حاجة إليه، وأنا أرى ما يراه المؤلِّفُ في دعوته إلى الإصلاح التربوي في عصره، وأدعو رجالَ التعليم في وطننا إلى التزوُّد من مَعِين هذا الكتاب القيِّم، الذي آثرتُ أن أقرأَه للقراء؛ لِما فيه من الفوائد التي يمكنُ تطبيقُها في زمننا، وإن كان قديمًا على عصرنا

ليست هناك تعليقات: