منذ أن ولد علم الاقتصاد (أى منذ قرنين ونصف القرن) ظلت فكرتان تتصارعان داخل عقول الاقتصاديين (بل وربما فى قلوبهم أيضا)، فتنتصر إحداهما مرة، ثم تنتصر عليها الأخرى. والصراع هو حول الإجابة على السؤال الآتى: «أيهما أهم: زيادة الثروة أم حُسن توزيعها؟».
من السهل أن نتبين أن وراء هذا الصراع فى الفكر، صراعا طبقيا، فالمنتصرون للأغنياء يقولون عادة إن زيادة الثروة هى الأهم (إذ إن إعادة توزيع الثروة لابد أن يكون على حسابهم)، والمنتصرون للفقراء يقولون بالعكس إن المهم هو حُسن توزيع الثروة، ولكن الجميع يزعمون بأنهم لا يبغون فى النهاية إلا مصلحة الفقراء. الفريق الأول يقول ان التركيز على زيادة الثروة هو الذى يحقق مصلحة الفقراء فى النهاية، وان اللهفة على إعادة التوزيع لصالح الفقراء، ستنتهى بالإضرار بهم، فإذا بنا بدلا من أن نعيد توزيع الثروة نعيد فى الواقع توزيع الفقر. أما الفريق الثانى، فيؤكد أن سوء توزيع الثروة لابد أن يؤدى فى النهاية إلى تقليل حجم الثروة نفسها، ومن ثم فإن إعادة التوزيع تضمن تحقيق العدل والتنمية فى نفس الوقت.
المدهش فى هذا الخلاف الذى بدأ منذ آدم سميث (1776)، الذى يوصف عادة بأنه أبوعلم الاقتصاد، أن الحجج التى يستخدمها كل فريق لم تتغير كثيرا منذ ذلك اليوم. أما حجة الفريق الأول فتتلخص فى الآتى: تحسين حالة الفقراء (العمال) يتوقف على زيادة الطلب عليهم، فتنخفض البطالة وترتفع الأجور. ولكن زيادة الطلب على العمال تتوقف بدورها على الاستثمار، والاستثمار يتوقف على الادخار، والادخار لا يقدر عليه إلا الأغنياء (الرأسماليون)، فلنترك الرأسماليين إذن يحققون المزيد والمزيد من الأرباح، ويزدادون غنى، ففى ذلك مصلحة الفقراء أيضا.
هذا الفريق يستغرب القول بغير ذلك. إذ من الذى يمكن ان يوظف العمال غير الرأسماليين؟ الدولة؟ فمن أين ستأتى الدولة بالأموال اللازمة؟ إما من الضرائب أو بالتأميم. ولكن زيادة الضرائب والتأميم كلاهما بمثابة قتل الدجاجة التى تبيض ذهبا. الضرائب تقتل الحافز لدى الرأسماليين للقيام بالاستثمار، والتأميم ينقل قرارات الإنتاج والاستثمار من يد أكفأ الناس (الرأسماليين) إلى يد أقلهم كفاءة (موظفو الدولة)، ناهيك عما يؤدى إليه هذا من ديكتاتورية.
من الأقوال الطريفة التى تنسب إلى أنصار هذا الفريق، قول أحد الساخرين من الذين لا يكفون عن الشكوى من استغلال الرأسماليين للعمال: «إن هناك شيئا أفظع من ان تخضع للاستغلال، وهو ألا تجد من يستغلك على الإطلاق!».
أما الفريق الثانى، فتتلخص حجته فى الآتى: الإنتاج لا يأتى فقط من رأس المال، بل يأتى أساسا من العمال، والعمال (الخاضعون للاستغلال) يؤدى فقرهم إلى انخفاض إنتاجهم. ومن ثم فتحسين أحوالهم يؤدى بذاته إلى زيادة الدخل والثروة والأرباح التى يجنيها الرأسماليون لا تذهب كلها للاستثمار، بل قد يبدو أكثرها فى الاستهلاك الذى لا يساهم فى زيادة ثروة المجتمع. والجزء الذى يوجه منها للاستثمار قد يذهب إلى فروع من الإنتاج قليلة الأهمية من وجهة نظر أغلبية الناس، فلا يفيد منها إلا الأغنياء أنفسهم. والرأسماليون لا يهمهم القضاء على البطالة، بل يستفيدون منها لأنها تضمن استمرار انخفاض الأجور. ومن ثم قد يذهب الاستثمار إلى فروع لا تستوعب الكثير من العمال، وقد تستخدم تكنولوجيا كثيفة الاستخدام لرأس المال، فتحل الآلات محل العمال وتزيد البطالة.
لا خروج من هذه الحالة إلا بتدخل الدولة، بالضرائب أو التأميم، فتقوم هى بالاستثمارات المطلوبة، وتدفع الأجور العادلة، وتحدد أوجه الانفاق التى تفيد المجتمع ككل. أما عن تشدق الرأسماليين بما يتيحه نظامهم من حرية، فالحقيقة أن حرية الاختيار المتاحة للعمال فى الرأسمالية فهى بين أن يقبلوا الخضوع لاستغلال الرأسماليين، أو أن يموتوا جوعا.
•••
هذا السجال (أو حتى العراك) بين الفريقين استمر طوال فترة القرنين ونصف القرن الماضية، فينتصر الفريق الأول كلما حسن أداء الرأسماليين، فارتفعت معدلات النمو، وأدخلت تكنولوجيا جديدة بمعدلات عالية، وينتصر الفريق الثانى كلما ضعف أداء الرأسمالية، فانخفض الاستثمار ومعدل النمو وعمت البطالة.
حدث الازدهار فى فترة الثورة الصناعية فى أوروبا فى الربع الأخير من القرن الثامن عشر والعقود الأولى من القرن التاسع عشر، وهى الفترة التى شهدت ازدهار الفكر الاقتصادى الكلاسيكى المناصر للرأسمالية. وتباطأ النمو فى الربع الثالث من القرن التاسع عشر، وهى الفترة التى نشأ فيها الفكر الماركسى. ثم حدث انكسار آخر فيما بين الحربين العالميتين فى القرن العشرين، فاشتد عود الاشتراكيين وظهرت المدرسة الكنيزية التى انتقدت بشدة ترك الحرية المطلقة للرأسماليين، وأدت إلى قيام ما عرف «بدولة الرفاهية» فى أعقاب الحرب الثانية.
كان عقدا الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين هما عقدا التدخل الشديد من جانب الدولة، ليس فقط فى الدول الصناعية المتقدمة، بل وأيضا فى دول العالم الثالث حديثة الاستقلال. وكان جمال عبدالناصر من أهم ممثلى هذا الاتجاه (الذى يعبر عن موقف الفريق الثانى) فى العالم الثالث.
ولكن أشياء كثيرة حدثت منذ ذلك الوقت فى العالم الصناعى والعالم الثالث على السواء. ازدهرت الرأسمالية من جديد وضعفت أصوات المنادين بالتدخل، مع انتصار سياسات الانفتاح الاقتصادى، فى الثمانينيات والتسعينيات، ثم تراخى النمو الاقتصادى وزادت البطالة فى العقدين التاليين، وبلغ هذا التراخى ذروته فى الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التى بدأت فى سنة 2008، ومازالت قائمة حتى الآن. لا عجب ان نشط من جديد الحديث عن تدخل الدولة، وإعادة توزيع الدخل، والعدالة الاجتماعية، كما تعودنا دائما ان يحدث كلما تدهور أداء الرأسمالية.
•••
ليس غريبا إذن ان نرى شعار العدالة الاجتماعية يرفع بقوة من جديد فى مصر، مع قيام ثورة 25 يناير 2011. وليس غريبا أيضا ان يتردد اسم عبدالناصر من جديد، وان تعود ذكريات السياسة الاقتصادية الناصرية التى طبقت فى الخمسينيات والستينيات إلى الأذهان، كلما رفع شعار العدالة الاجتماعية. ولكن من المهم ان نلاحظ أن «العدالة الاجتماعية» المطلوبة الآن لا يمكن ان تعنى نفس ما كانت تعنيه منذ نصف قرن، كما ان وسائل تحقيقها لم تعد هى الوسائل القديمة. لقد تغير العالم وتغيبت مصر فى جوانب مهمة تجعل من الضرورى إعادة تحديد مفهوم العدالة الاجتماعية حتى يصبح أكثر ملاءمة وواقعية، وإعادة النظر أيضا فى وسائل تحقيقها. هذا هو ما سأحاول بيانه فى المقال التالى.
اقرأ المزيد هنا:http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=11032014&id=5f80dcc4-6755-4d94-a507-7e1eb875d49b