مقال سمير مرقص - المصري اليوم
(1)
منذ سنة رحل عنا رشدى سعيد الذى وصفناه بأنه أحد أحجار مصر الكريمة.. فلقد كان جيولوجياً ومثقفاً موسوعياً عظيماً.. له موسوعة عن النيل، الذى كان يتعامل معه ككائن حى.. وكان يربط بين حاله وأحوال مصر والمصريين.. كما كان حافظاً لكل بقعة من بقاع مصر يعرف قيمتها وأهميتها، وكيف يمكن أن يتم توظيفها لصالح تقدم مصر.. هذا بالإضافة إلى كثير من الدراسات التى تضمنت كثيراً من الأفكار التى لم تزل صالحة للتناول والاستعادة، وخاصة فى مرحلة حرجة كالتى تمر بها مصر.. من هذه الأفكار ما طرحه مبكراً فى منتصف التسعينيات تحت عنوان: «الحقيقة والوهم فى الواقع المصرى المعاصر».
(2)
يستهل رشدى سعيد دراسته بالكلمات الآتية: «هناك من الحقائق ما قد يزعج الكثيرين من النخب التى اعتادت أن تصور حياتها ومجتمعها على أفضل ما يكون، وتهمل بل تحرم الكلام عن الجزء المشين منه»، ولكنه اختار أن يخوض المهمة الصعبة ـ لاحظ عزيزى القارئ، فى وقت صعب- فى وقت كانت السلطة، كل سلطة ـ لا تطيق أن تسمع ما يضايق أو يؤرق.. اختار أن يقدم الحقائق عن المجتمع المصرى: «دون خداع أو إغراق فى الوهم».. قاصداً أن «يذكر النخب بحجم العمل الذى ينتظرهم لكى يعدوا مصر للدخول إلى القرن الواحد والعشرين».. من هنا انطلق رشدى سعيد فى تقديم فكرته عن:
«الكتلتين البشريتين: الطافية (وهى قلة قادرة على الحياة) والغاطسة (وهى الغالبة التى تعانى)؛ ومن خلال دراسة أحوال كل كتلة: تفصيلاً، عكس واقع المجتمع المصرى» ومن ثم المطلوب عمله.
(3)
قدَّر سعيد الكتلة الغاطسة ـ آنذاك ـ بـ 50 مليون نسمة، يتراوح دخلها الشهرى بين 100 و500 جم، ومجموع ما تحصل عليه من جملة الدخل القومى 25%، بالرغم من أنها تمثل 86%من جملة سكان مصر.. الأهم هو تبعات ذلك من نمط العيشة التى يحياها هؤلاء «الغاطسون»؛ والتى تخاصم كل ما هو آدمى وإنسانى وتبتعد كثيراً عن معايير الحياة الكريمة: بداية من التهوية الجيدة، ومروراً بالإضاءة، وغياب المرافق الأساسية، إلى الحياة إلى جوار أو بالقرب من الحيوانات والقمامة والمصارف...إلخ. أما الكتلة «الطافية» فلقد قدَّرها رشدى سعيد بنسبة 14%، فهم وإن كانوا يعيشون فى مستوى أعلى من العيش ويحصلون على النسبة الأكبر من الدخل القومى، ومن ثم يتمتعون بكل ما هو حديث من أجهزة، ويعيشون كل المجتمع الاستهلاكى بكل طاقتهم، إلا أنهم لا يتميزون كثيراًـ فى المجمل ـ من حيث الخصائص الحضارية، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية، ومن هنا كان التخلف مركّباً. ويستمر رشدى سعيد فى تشريح الخريطة الاجتماعية المصرية، حيث يقسمها كما يلى: الشريحة العليا من كتلة البشر الطافية، والشريحة الوسطى من كتلة البشر الطافية، والشريحة الدنيا من كتلة البشر الطافية، ويرسم صورة اقتصادية/ اجتماعية لكل شريحة ويرصد أثر خيارات كل شريحة، وما آلت إليه مصر بفعل هذه الحقائق التى رصدها.
(4)
إن ما ذكره سعيد كان فى تقديرى ما عجَّل كثيراً بحراك 25 يناير، وما سيعجل بأى حراك فى المستقبل ما لم نتعاطَ مع الحقائق دون أوهام، وإن مصر جديدة غير غاطسة، مدخلها تحديث الخريطة المعرفية الطبقية/ الاجتماعية/ الثقافية الرائدة التى أنجزها رشدى سعيد وغيره من بناة المواطنة فى مصر.