أقام ابن بطوطة بعد رحلاته الثلاث في حاشية الملك أبي عنان المَريني يحدّث الناس بما رآه من عجائب المشاهدات وماسمعه من غرائب الأخبار، فأجزل السلطان له العطاء ودعاه إلى إملاء ما شاهده على كاتبه ابن جزّي الكلبي. ولما كان الهنود قد سلبوا ابن بطوطة في بعض جولاته في الهند كلَّ ما قد دوّنه في مذكراته، فقد أملى ـ عن ظهر قلبه ـ ما تذكره من أسماء الأعلام والمدن، وقد سمى مجموعة أخباره: «تحفة النّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، وهي تعرف اليوم برحلات ابن بطوطة. وبعد انتساخ الرحلة عينه سلطان المغرب قاضياً على إقليم مسار أوسع أقاليم المغرب، وظل هناك حتى وفاته.
وقد لخّص ابن جزيّ المطوّل من رحلة ابن بطوطة، ورتّب الفصول وأضاف بعض الأشعار واستعان في تحقيق بعض الأجزاء بكتب الرحلات كرحلة ابن جبير. ويبدو من ذلك أن بعض أجزاء الرحلة ليست من سرد ابن بطوطة وإنّما من أسلوب ابن جُزيّ، ولاسيما في مقدمة الكتاب وخاتمته، وفي كلّ مقدمة لوصف مدينة كبيرة استخدم ابن جزيّ أسلوب السجع والتنميق، أما ما رواه ابن بطوطة فقد روي بعبارات بسيطة، ساذجة أحياناً، خالية من فن التأليف والترتيب، فلم يكن ابن بطوطة عالماً ولا مفكراً ولكنه كان جوّاب آفاق دقيق الملاحظة، أحبّ الاطلاع على كل شيء غريب، فسرد أخباره بأسلوب فكه ظريف، توخى فيه الأمانة، فإذا نسي اسماً لم يخترع سواه بل يقول بكل بساطة إنه نسيه، صارفاً همّه إلى ذكر أحوال الناس وعاداتهم وتصرفاتهم، فلم تكن غايته من رحلاته وصف البلاد والجبال والأنهار،
وإنما وصف الناس الذين ألقت بهم المصادفات في طريقه، لذلك فالكتاب صفحة من التاريخ الاجتماعي الإسلامي، إضافة إلى أنه كتاب في الجغرافية البشرية وخاصة ما يتعلق برحلته الأولى. ويرى المستشرق الألماني فرّان Ch.M.Frahn أنه يمكن أن يعد ابن بطوطة من الجغرافيين الذين لا غنى عنهم في تحسين علم الجغرافية وصرفه عن جفاف الخرائط والخطوط إلى محيط الحياة المتنوّع، وذلك في تصويره للشعوب المتباينة في عاداتها وتصرفاتها ومعتقداتها. ومعلوماته عن كثير من المقاطعات الإفريقية المجهولة التي زارها في رحلته الثالثة، ووصفه لنهر النيجر وبلاد الزنج (زنجبار) تفيد علم الجغرافية أكبر فائدة، وهو دقيق في وصفه لهذه الرحلة، وإذا كان ثمة أخطاء قليلة في كتابه في ذكر رحلته الأولى فذلك ناشئ عن أنه أملى الأحداث بعد مرور عشرين سنة عليها. ومع ذلك فإن ما رواه عن الهند وسيلان وسومطرة وبعض أجزاء الصين قد لقي اهتماماً كبيراً من الباحثين.
وقد نوّه الجغرافيون اليوم بالفائدة الجلّى التي قدمها ابن بطوطة للفكر الجغرافي العربي، وبالمعلومات الغنية التي تضمنتها الرحلات، ولقد كاد عدد الأعلام الجغرافية فيها يصل إلى نحو من ستين وتسعمئة علم، ويمكن أن تصنف الأعلام الجغرافية الواردة في الرحلة ثلاثة أقسام، الأول وهو المعروف الصحيح المحدد، وتصل نسبة هذه الأعلام إلى تسعين في المئة، وما يزال الناس يرددون تلك الأسماء إلى اليوم مع الاختلاف في المظاهر التي تطورت مع الزمن وأحياناً مع التحريف في الأسماء على ما يذكر في اسم دهلي التي تسمى دلهي اليوم. والثاني أعلام ما يزال الباحثون يحاولون تعيينها وهي لا تتجاوز التسعة بالمئة، وهناك أعلام قليلة جداً لم ترد في المصادر ولا تعرف أماكنها.
ولكتاب «تحفة النظّار» قيمة تاريخية، فهو بما يحتويه يعدّ مصدراً من مصادر التاريخ الدولي للعالم الإسلامي وعلاقات أقطار هذا العالم بعضها ببعض وعلاقاته بالعالم المسيحي. وقد أورد ابن بطوطة من الأخبار ما لا يوجد في الكتب التاريخية، واستطاع أن يستعرض أمام قارئ رحلاته الملوك الذين كانوا يهيمنون في عهده على معظم أطراف الدنيا والذين تسنى له أن يقابلهم. وهو يفيض في الحديث عن علاقات المغرب الأولى بالعثمانيين واستقبال الأميرة بيلون خاتون زوجة السلطان أورخان بك ابن السلطان عثمان له، ويتحدث عن علاقات المغرب بالمشرق وعلاقة دولة المماليك بالمغرب، وهو في حديثه عن المغرب يبدو محباً لوطنه يضفي على كل ما هو مغربي الشيء الكثير من الامتياز ولاسيما إذا قارن المغرب بالبلاد الإسلامية الأخرى.
من المؤسف أن رحلة ابن بطوطة ظلّت خفية عن معظم الذين كانوا يهتمون بالرحلات ممن عاصروه أو قاربوا عصره، ولم تعرف «تحفة النظّار» في المغرب إلا في أواخر القرن العاشر الهجري عندما ذكرها أبو الحسن علي بن عبد الله الجزولي التمجروني في كتابه «النفحة المسكية في السفارة التركية» حيث نقل بعض المعلومات من ابن بطوطة تتعلق بقابس والقسطنطينية. وكذلك عندما نقل عنها المقّري في «نفح الطيب» حديثه عن مالقه وغرناطة والملك الصالح وسلطان ماردين.
غير أن حظ الرحلة كان أوفى في البلاد المشرقية العربية، فقد لخص محمد بن فتح الله البيلوني الحلبي(ت1085هـ/1674م) «تحفة النظار» في كتاب سماه «المنتقى»، كما ظهر مختصر آخر لمؤلف مجهول عام (1102هـ/1691م)، ومن ثم حظيت الرحلة باهتمام لم تلقه رحلات أخرى من رحلات المسلمين.
ومع ذلك فقد تضاربت الآراء بشأنها، فشكّ بعضهم بأحاديث ابن بطوطة، وكان من أبرزهم ابن خلدون الذي رأى في وصف ابن بطوطة لرحلته ما يدعو الناس إلى تكذيبه وإنكاره، ويبدو أن ابن جزيّ نفسه لم يكن يخلو من بعض الشكوك، وفي ذلك يقول في مقدمة الكتاب: «وأوردت جميع ما أورده من الحكايات والأخبار، ولم أتعرض لبحث عن حقيقة ذلك ولا اختبار».
غير أن علماء الغرب اهتموا بابن بطوطة مقدرين ما تجشمه من مشقة الأسفار لقلة وسائل النقل وصعوبة الحصول عليها،مقدمين له العذر حين تتشابه أمامه المسالك وتتعثر الدروب، حتى وصفه المستشرق دوزي (بالرحالة الأمين) ولقبته جمعية كمبردج بأمير الرحالة المسلمين.
كان أول من اهتم بالرحلة المستشرق الألماني بوركهارت Burchshardt، فقد وجد ملخص الرحلة الذي وضعه البيلوني الحلبي فترجمه، وكان ذلك في بداية القرن التاسع عشر، ثم أخذ المستشرقون يبحثون عن النسخ الأصلية للرحلة فترجموها أو ترجموا أقساماً منها إلى لغاتهم، فقام بنشرها في أربعة أجزاء الباحثان دوفريميري Defremery وسانغنيتّي Sanguinetti،ونشر المستشرق السير هاملتون جب H. Gibb مقتطعات منها وترجمها إلى الإنكليزية. وقد ناهز عدد الترجمات حتى اليوم العشرين.
تأخر طبع الرحلة في العالم العربي إلى عام 1288هـ/1871م، وقد اعتمدت الطبعات العربية التي صدرت في لبنان ومصر على الطبعة الفرنسية التي صدرت في أربعة أجزاء، وإن كان ابن جزيّ قد قسم الرحلات إلى قسمين، ينتهي الأول منها بوصول ابن بطوطة إلى نهر السند وينتهي القسم الثاني بنهاية الرحلة الثالثة.
وإذا أريد المقارنة بين رحلة ابن بطوطة والرحلات الأخرى يتبين أن رحلته أكثر شمولاً وأوسع وأغنى من كل الرحلات الأخرى، لذلك يمكن تسميتها الرحلة العامة التي جمعت كثيراً من الأغراض في آن واحد، فابن بطوطة كان حاجاً ودارساً وسائحاً مكتشفاً وتاجراً ومرشداً، يضاف إلى ذلك اللذة التي يحصل عليها القارئ لدى مطالعتها، وما يثيره ذلك في نفسه من حب المغامرة وتحدي الصعاب وتحمل المشاق في سبيل ارتياد البلاد البعيدة.
عبد الهادي التازي
ـ ابن جزيّ، مقدمة رحلة ابن بطوطة.
ـ ياقوت الحموي، معجم البلدان ( دار صادر، بيروت 1977 ).
ـ أحمد رمضان أحمد، الرحلة والرحّالة المسلمون (دار البيان العربي، جدة).
ـ عبد الهادي التازي، رحلة ابن بطوطة (أكاديمية المملكة المغربية، 1417هـ/1996م).