لم تغب «الأم» عن القصيدة العربية على مر العصور لتتعطر ألسنة الشعراء العرب بأبيات عن أمهاتهم، وبدا ذلك واضحًا في شعر الأسر ووجدان وحياة شعراء المدرسة الكلاسيكية وحنين وقديسة لدي شعراء مدرسة الشعر الحر.
«أمَّ صخرٍ لا تمَلُّ عيادتي»
وكانت المفاضلة الأولي في القصيدة العربية للأم، من نصيب الشاعر «صخر بن عمرو»، حينما قارن بين زوجته وأمه، على إثر طعنة أصابته تسببت بعد ذلك في وفاته، وفي فترة المرض الأخير لما سألت إحدى الجارات عنه، زوجته كانت الإجابة قاسية على نفس الرجل حينما سمع زوجته تقول عنه «لا حيٌّ فيرجي ولا ميتٌ فيُسلى وقد لا قينا منه الأمرين»، جرحته الإجابة فأخذ يقول:
«أرى أمَّ صخرٍ لا تمَلُّ عيادتي.. ومَلَّتْ سُلَيمى مِضْجَعي ومَكاني»، بيت واحد كشف فيه حنان أمه وعقوق زوجته التي لم تتحمل مرضه لأيام.
«أمي فرات»
وللعصر الحديث أيضًا نصيب أكبر في كلمات الشعراء عن أمهاتهم، خاصة شعراء المدرسة الكلاسيكية، الذين ارتقوا في وصف الأم، فقد جعل الشاعر عبد العظيم أبو الفتوح حب أمه كنهر الفرات يرويه من حنانها فكتب:
يبوح الزهـر بالعطـر وغيث السحب بالقطرِ
وفيضُ الحب من أمي فراتٌ بالهدى يجري
ثم تحدث عن غفرانها لزلاته، قائلا:
وتغفـر كلَّ زلاتي وتجعل روحها ستري
«قلب الأم»
ولأمير الشعراء أحمد شوقي قصيدته الأشهر عن الأم عنوانها «قلب الأم»، التي عرضها كقصة شعرية بدايتها رجل أغرى غلاما جاهلا طالبا منه قلب أمه مقابل المال، واستجاب الفتي الجاهل حتى طعن قلب الأم بالخنجر ليناديه قلب أمه المطعون، قائلا والدم ينهمر:
ولدي، حبيبي، هل أصابك من ضررْ؟
فكأن هذا الصوتَ رُغْمَ حُنُوِّهِ غَضَبُ السماء على الوليد قد انهمرْ
ورأى فظيع جنايةٍ لم يأتها أحدٌ سواهُ مُنْذ تاريخِ البشرْ
وكانت المفاجأة التي لم يدرك الغلام خطورتها عند شوقي إلا بعد ارتكاب جنايته فبكى يردد :
يا قلبُ انتقم مني ولا تغفرْ، فإن جريمتي لا تُغتفرْ
واستلَّ خنجرهُ ليطعنَ صدرهُ طعناً سيبقى عبرةً لمن اعتبرْ
ناداه قلبُ الأمِّ: كُفَّ يداً ولا تذبح فؤادي مرتين على الأثر
«أوصي بك الرحمنُ»
أما الشاعر السوري مطيع إدريس فيسطّر رسالة لأمه نصها:
يا خيرَ مَنْ أوصي بك الرحمنُ وأتي على ذكر اسمك القرآنُ
لو لم تكن فيك الأمومة ما انحنى لك في السماوات العلا رضوانُ
أنت العواطفُ والمشاعر كلُها أنت الضميرُ الحىُّ والوجدانُ
فإليكِ كلُّ تحيةٍ ومحبة وإليك منّا الشكرُ والعرِفانُ
«في يوم عيدي»
وللشاعر السعودي عبد الرحمن بن صالح العشماوي قصيدة كشفت ألمه أمام مرض أمه ليكتب لها قبل وفاتها وفقدانه لطعم الفرحة بالعيد:
أمَّاه.. أمَّاه، غيث المقلةِ انسكبا
في يوم عيدي، وجمرُ الحسرةِ الْتهبا
قالوا: أتى العيد بالأفراحِ، قلتُ لهم
بالعيد نفرح لكنَّ الأسى غَلَبَا
نبادل الناسَ يا أمَّاه تَهْنِئَةً
وكلُّ معنىً للفظ الفرحةِ انقلبا
ولم أقابلْكِ يا أمَّاه في سَحَرٍ
قبل الصلاةِ لأنسى عندك النَّصَبا
ولم أجدْكِ على الكرسيِّ جالسةً
كالبدر ما غاب عن عيني ولا احتجبا "
«نم يا صغيري»
وحتى في شعر الأسر والحزن لم تكن الأم غائبة عن الشعراء، خصوصًا حينما ردد هاشم الرفاعي قصيدته الشهيرة بعنوان «أغنية أم» التي لخص فيها مأساة المعتقلين في أم ترضع رضيعها والتي كتب فيها على لسان «أم» قتل الاحتلال زوجها لتجد نفسها وحيدة مع ابنها فتغني له حتى ينام قائلة:
نم يا صغيري إن هذا الـمهد يحـرسه الرجـاء
مـن مقـلةٍ سهـرتْ لآلامٍ تثـور مع الـمسـاء
فأصوغهـا لـحنًا مقـاطعه تَأَجَّجُ فـي الـدمـاء
نم، لا تشـاركـنـي الـمـرارة والـــــمحنْ
فلسـوف أرضعك الجـراحَ مع اللــــــــــبن
«تحت أقدام أمي رحت ألقيها»
ومن مدرسة الشعر الكلاسيكي نجد «بسام دعيس»، قد اعترف بعجزه عن موافاة أمه ولو بهدايا الدنيا، مؤكدا أن الشعر وحده لن يكفي لموافاتها حقها..
مـهـمـا نـظـمـتُ عــقــوداً مــــن قـوافـيـهـا
واخـتـرت درّ المعـانـي مــن شواطيـهـا
ولــو قطـفـتُ ورود الشـعـر مــن لغـتـي
وتــحــت أقــــدام أمــــي رحــــت ألـقـيـهـا
مـــا كـنــت أبـلــغ شـيـئـاً مـــن مكـانـتـهـا
ولا اسـتــطــعــت بــأشــعـــاري أجــازيــهـــا
«أحن إلى خبز أمي»
وتأتي مدرسة الشعر الحر لتتوج الأم ملكة على عرشها، خاصة بعد أن تفوق محمود درويش على نفسه بحنينه إلى خبز أمه بقصيدته «أحن إلى خبز أمي»، والتي كشف فيها عن معنى حياته الحقيقي، وأنه يحيا من أجلها، ويخشى الموت خجلا منه على دمعها:
وأعشق عمري لأني
إذا متُّ، أخجل من دمع أمي !
«قدّيستي الحلوة»
أما نزار قباني الذي توج المرأة بقصائده أميرة للشعر، فقد جعل أمه قديسة في خمس رسائل لها بدأها بتحية الصباح
صباحُ الخيرِ يا حلوة..
صباحُ الخيرِ يا قدّيستي الحلوة
اعترف نزار بأنه طاف العالم فنعى فقدانه لسيدة تمشط له شعره مثل أمه:
طفتُ العالمَ الأصفر
ولم أعثر..
على امرأةٍ تمشّطُ شعريَ الأشقر
ويعجب لبلوغه الكبر وكونه أبات وهو طفل أمامها، قائلا:
فكيفَ.. فكيفَ يا أمي
غدوتُ أباً..
ولم أكبر؟
«زمن الفطام»
الشاعر فاروق جويدة كانت هديته لأمه قصيدة عنوانها «السلام عليكم» قال لأمه فيها:
وتركت رأسي فوق صدرك
ثم تاه العمر مني.. في الزحام
فرجعت كالطفل الصغير
يكابد الآلام في زمن الفطام
ثم يعاود جويدة ذكرياته مع أمه الحنون متحدثًا عن آخر كلمات والدته له:
قد كان آخر ما سمعت مع الوداع
الله يا ولدي يبارك خطوتك
الله يا ولدي معك..