‏إظهار الرسائل ذات التسميات أحمد الدريني. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات أحمد الدريني. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 27 فبراير 2014

عن المهنية والكفتة وأشياء أخرى

أحمد الدريني
استاء كثيرون من ردة الفعل الساخرة التي قوبل بها إعلان القوات المسلحة عن صنع جهاز قادر بأمر الله على كشف أنواع متعددة من الفيروسات، من بينها الإيدز وفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي (سي)، والأخير واحد من أكبر القتلة في مصر؛ حيث يقف أمام منجله ملايين المصابين.
الأمر على درجة كبيرة من الأهمية والجدية، حتى لو اقتصر على تجربة أولية لجهاز تخيلي، فهو اختراع يتعلق بحياة الملايين من المرضى داخل مصر وخارجها، ويتعلق بمليارات الدولارات من أموال الأدوية والدعاية والصناعات الطبية والصناعات التابعة.
ولم تكن هذه الصرعة الكوميدية وليدة العدم أو مجرد الرغبة المنطلقة لسكان الكوكبين الأزرقين على الإنترنت، فيس بوك وتويتر، في الهري والألش والتهريج. بل إنني أتصور أن السخرية الأليمة التي واجه بها قطاع واسع من المواطنين هذا الموضوع شديد الأهمية والجدية جاءت كعقاب على عدد كبير من الأخطاء المهنية التي ارتكبها صناع الخبر وناشروه.
جرت العادة العلمية على أن تعلن نتائج الأبحاث العلمية في المؤتمرات العلمية، وأن تعرض البيانات والتجارب في المجلات العلمية المعروفة، وهذا وحده هو الذي يميز الكشوف العلمية عن الخرافات، ويميزها عن الدعايات السياسية ونتاجات الدجل الديني والسياسي ومحاولات التربح.
الأبحاث العلمية تبدأ في الجامعات أو تنتهي فيها.. إما أن تبدأ فيها لأن الجامعات هي الجهات التي تملك القواعد العلمية والمعملية المناسبة للاضطلاع بهذا العمل، وإما أن تنتهي فيها لأنها الجهة ذات المصداقية العلمية القادرة على تحقيق الكشوف العلمية ودمجها في السياق العالمي للبحث العلمي المعروف جيدا أنه سياق متماسك وموحد ولا يقبل بالدخائل العشوائية.
والحقيقة- التي تبينت لاحقا- أن أبحاث الجهاز الذي أعلنت عنه القوات المسلحة لم تكن في بدايتها سرية. بل إن هذه الأبحاث عرضت من قبل في مؤتمرات طبية عالمية، ولقيت حفاوة بوصفها محاولة مبتكرة للتفكير في حلول تتجاوز المعتاد في هذا المجال الطبي الخطير.
لكن القوات المسلحة اختارت أن تعلن عن نتائج هذا البحث بشكل يوحي بأنه خلاصة أبحاث «سرية» أجراها الجيش في معامله السرية في وقت غير معروف وسياق علمي مجهول!
وبالطبع أسفر إعلان بهذه الدرجة من الغموض عن إعلان صحفي غير واضح عن جهاز خارق يكشف جميع أنواع الفيروسات، وعن علاج لمرضى الإيدز والالتهاب الكبدي الوبائي (سي)!!
وحول محرر (غير موفق) هذه الفوضى الحدثية إلى فوضى خبرية مفادها أن القوات المسلحة اخترعت جهازا يكشف كل أنواع الفيروسات ويعالجها ومن بينها الإيدز وفيروس سي!
والتقطت جوقة الطبل والزمر هذا الخبر بحفاوة زائدة، وسارعت إلى دمجه في منظومة النفاق للمؤسسة ولقائدها، وكذلك في منظومة الردح لكل من تسول له نفسه انتقاد أي حلقة من حلقات اللامهنية الواضحة في صناعة هذا الخبر ونشره.
باختصار، لم يعد الحدث- أو الأخبار المتناقلة عنه- علميا. لقد تحول كشف محتمل عن حل مبتكر لتشخيص فيروسات وعلاجها إلى عنصر حاسم يتعلق بكرامة المؤسسة العسكرية وشرف قائدها.. تحول تقييم كشف علمي ربما يكون إنجازا أو حتى مقدمة لإنجاز طبي قد يحول التاريخ الطبي أو لا يحوله إلى ساحة للمراهنة على 30 يونيو ومدى الإخلاص لها والإيمان بثوريتها والكفر بانقلابيتها.
من كان منكم يؤمن بالجهاز العجيب فهو يؤمن بالثورة.. ومن كان منكم لا يؤمن به فهو خائن عميل يشم الكلة ويهدم روح البناء عمدا!!
ليس غريبا أن تكتمل المهزلة بمؤتمر يعقده اللواء طبيب صاحب الاختراع ويستخدم فيه تشبيها مثيرا للشفقة يتضمن «سحب الإيدز من المريض وإرجاعه له على هيئة صباع كفتة».. وبالطبع يحكي الرجل عن مؤامرة كونية لمحاولة الهيمنة على الاكتشاف، وعن تدخلات للمخابرات المصرية في الحفاظ على مصرية الجهاز حتى إنه لا يعمل- لأسباب جينية- إلا على أجسام المصريين.
كان الرجل في الأغلب يحاول أن يكون مفهوما للمواطن البسيط، فتحول تبسيطه إلى تسطيح ساذج لمادته العلمية التي كان يجب أن تكون أكثر وضوحا ودقة، ولغته التي كان يجب أن تكون موضوعية بما يليق بأمر على هذه الدرجة من الأهمية والخطورة.
وبالتأكيد لن يكون غريبا أن يتلقف شعب جبلت فطرته على السخرية كل ما سبق ذكره من هلاوس مهنية بقبول حسن ليحوله إلى موجة عاصفة من النكت والتصريحات الكاذبة وكمية لا حصر لها من الصور الضاحكة.
هذه هي النتيجة الطبيعية للتعجل في تحويل انتصار علمي إلى انتصار سياسي. هذه هي النتيجة الحتمية للاستهتار بأبسط القواعد المهنية- سواء في ذلك ما هو علمي وما هو صحفي.