الأحد، 11 يناير 2015

العميد حمزة يونس .. البطل المنسي وسط الأقزام

16_31_26

أنا خائف من انهيار عالمي ..

محمد أبو الغيط
(1)
الرجل المسن الصامت الجالس على طرف المنضدة، متكئاً على عصاً خشبية، وبنظارة غليظة، لم يبدُ لي مهماً أبداً.
كنت أحاور صحفياً مجموعة من اللاجئين الفلسطينيين القادمين من سوريا إلى مصر، والذين سقطوا من حسابات كل الجهات الدولية بسبب تعقيدات بيروقراطية، تخصّ كونهم تحت مسؤولية وكالة « الأونروا » وليس مفوضية اللاجئين كالسوريين، لكن «الأونروا» لا تعمل هنا، لرفض مصر وجود أي مخيمات لاجئين فلسطينيين بها تاريخياً.
انتهيت من عملي، وبينما أستأذن للرحيل، ناداني الرجل المسن لأجلس معه.. كنت على وشك الاعتذار بلطف بسبب تعجّلي، لكن شاباً بجواره قال: «تعال اتكلم معاه.. ده العميد حمزة يونس اللّي هرب من سجون إسرائيل 3 مرات!».
– عميد؟؟ هرب من سجون إسرائيل؟؟
جلست بالطبع، وبدأ الرجل دون سؤال يحكي قصصاً قادمة من عالم بعيد جداً…
قال إنه من قرية فلسطينية اسمها «عارة»، كانت ضمن 22 قرية سقطت دون قتال عام 1948، بعد أن انسحب منها الجيش العراقي وجيش الإنقاذ العربي في إطار اتفاقية « رودس ».
نال حمزة وأمثاله الجنسية الإسرائيلية، عمل مزارعاً في «الكيبوتسات»، أصبح له أصدقاء إسرائيليون، لكن العنصرية لم ترحمه، وظهرت أكثر حين وصل إلى 16 عاماً من عمره، فذهب أصدقاؤه للتدرب في الجيش استعداداً للخدمة العسكرية في سن 18، وعادوا يتكتمون عنه ما حدث.
مدفوعاً بطاقة غضب لا تنتهي؛ قرّر التدرب على الملاكمة ليدافع عن نفسه، فاز عام 1962 ببطولة إسرائيل للملاكمة لدى فئة الناشئين، ثم عام 1963 ببطولة إسرائيل لملاكمة الوزن الوسط.
عمل سبّاحاً منقذاً في نادٍ إسرائيلي، ثم فوجئ بزملائه يرفضون عمله، بعد أن اكتشفوا أنه عربي، لكن تهديده بترك النادي أجبر المسؤولين على إبقائه.
بعد مشاجرة مع إسرائيليين تسلّل إلى غزة وتواصل مع المخابرات المصرية، التي لم تصدّق قصته وأعادته، فتم اعتقاله عام 1964 بتهمة الخيانة والتعامل مع مصر، لكنه تمكن في مغامرة مذهلة من الهرب من سجن عسقلان.. استدرج الحراس وضربهم وقفز!
كان قد أعلن بتحدٍّ أمام الجميع، وبوضوح؛ أنه سيهرب اليوم ونفّذ قوله، وهو ما أدّى إلى إقالة مدير السجن، وجلسة استجواب في الكنيست.
ظلّ في غزة حتى عام 1967، عمل مترجماً لصالح المخابرات المصرية، لكنه بشكل مستقل تماماً وقف يقاتل القوات الإسرائيلية بعد الانسحاب المصري، وسقط أسيراً مصاباً بالرصاص في ساقيه، ثم تمكن للمرة الثانية من الهرب من المستشفى العسكري الإسرائيلي، وعبر الحدود إلى مصر.
عرضت عليه المخابرات المصرية عبر الرائد إبراهيم الدخاخني – وهو الآن لواء متقاعد – العمل لصالحها رسمياً، لكنه فضل الانضمام إلى الجناح المسلّح لحركة فتح، انتقل إلى الأردن ثم خرج منها إلى لبنان، وأصبح قائداً لمجموعة عسكرية مهمتها الرئيسية توصيل السلاح إلى الخلايا الفلسطينية في الداخل، حتى إنه قام بالسباحة 16 ساعة كاملة في أحد العمليات.
تمكنت إسرائيل من اعتقاله عام 1972 بالقرب من شاطئ حيفا؛ بينما كان يقود زورقاً مطاطياً محملاً بالسلاح، تحمّل التعذيب ولم يأتِ على ذكر زملائه، أصدرت المحكمة الإسرائيلية عليه 7 أحكام بالسجن المؤبد، وتم حبسه هذه المرة في سجن الرملة شديد الحراسة، والذي لم يهرب منه أي مسجون منذ إنشائه أبداً.
قرّر تكرار ما فعل في السجن الأول، تعهّد بمجرد دخوله أمام الجميع أنه سيهرب بعد عامين على الأكثر، وهو ما حدث؛ وتمكن من الهرب عام 74، بمساعدة رفيقه في السجن سمير درويش ابن عم الشاعر الفلسطيني محمود درويش.
كانت هذه العملية الأكثر تعقيداً وصعوبة، بما يليق بفيلم «أكشن» سينمائي، قام عبر حيل معقدة بتهريب وإخفاء مناشير داخل السجن، وبها نشروا قضبان نافذة غرفة الغسيل، وقفزوا منها في وقت قيام رفيقهم بقطع التيار الكهربائي (كان أمامه 7 ثوان لتجاوز جهاز الإنذار الأول، ودقيقتين لبلوغ السور) ثم هرب من مطاردات شرسة داخل الغابات.
تحوّل حمزة يونس إلى أسطورة محلية، استقبله ياسر عرفات فور وصوله إلى لبنان، أصبح مقرّباً من أبو جهاد (خليل الوزير)، عقدت منظمة التحرير مؤتمراً عالمياً لإعلان ما حدث، واصل العمل العسكري محتفظاً بمكانته المميزة.. بدا أن حمزة سيصبح بطلاً قومياً حتى آخر حياته.
مصيرك إما النصر أو الشهادة يا حمزة، وفي الحالتين لك المجد والسعادة.
(2)
فجأة تغيّر العالم كلّه.

خرجت المنظمات الفلسطينية من لبنان عام 82، بعد حصار إسرائيل لبيروت.. انهار عالم حمزة يونس تماماً، وبدأ عالم جديد لم ينتقل ليصبح جزءاً منه كغيره، فلم يحصل على مناصب في السلطة الفلسطينية التي نشأت بعد اتفاقية «أوسلو».
وهكذا عبر 33 سنة؛ تنقل حمزة من لبنان إلى السعودية، ثم إلى الجزائر، ثم انتهى به المقام في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطييين بسوريا.
لم يعد البطل الشهير الذي يتمنى الناس مصافحته، ولم يعد الشاب المغامر مفتول العضلات، بل هو مجرّد مُسنّ ضعيف آخر، ستراه في مدينة 6 أكتوبر جالساً على قهوة بلدي عادية جداً، يستند إلى عصاً خشبية ليتابع «دور طاولة»، وسط أقرانه من اللاجئين الفلسطينيين السوريين، بل لن تميّز أصلاً أن هؤلاء فلسطينيين، وستحسبهم مثل أي سوريين في المنطقة.
إذا كتبت الآن اسم «حمزة يونس» في محرك بحث جوجل فستجد فقط أخبار لاعب الكرة التونسي الذي يحمل الاسم نفسه.
طلب العميد حمزة بعد أيام أن يقابلني مرة أخرى، كان مهتماً للغاية بأن يشاهد ما كتبته عنه في جريدة الشروق، بصراحة خجلت من أن أريه الموضوع الذي احتل صفحة كاملة، لكن قصته مذكورة في زاوية صغيرة للغاية، فقلت له إن العدد ليس معي.
قال لي إنه يريد إعادة نشر كتاب مذكراته «الهروب من سجن الرملة» الذي صدر عام 99، وانتهت كل نسخه، طلبت منه أن يعطيني نسخة لأعرضها على دور النشر، فقال إن النسخة الوحيدة معه لا يمكنه المخاطرة بتركها، أخرج نسخة ورقية عبارة عن مئات الصفحات المنفصلة، كل ورقة بمفردها.
لم أعرف كيف أخبره أن «زمنك انتهى يا سيادة العميد».. كان هذا منذ ثلاثين عاماً كاملة، وقتها كان هناك معسكرات تدريب، وفدائيون، واتحاد سوفيتي، وكتلة شرقية، وقوات عاصفة، وأبو جهاد، وأبوإياد، وأيلول الأسود…إلخ.
كان زمنك عظيماً، وأنت كنت بطلاً، لكن.. بكل أسف، كل هذا انتهى يا سيادة العميد…
(3)
قابلت خلال عملي الإعلامي العديد من نسخ «حمزة يونس».
مثلاً هذا مدير لأحد أهم مراكز الدراسات في العالم العربي كلّه سابقاً، تلاميذه يملؤون الفضائيات والحكومات العربية حتى الآن، لكن قمة شهرته ومجده كانت في الستينيات والسبعينيات، انحسر اسمه مع انحسار موجة الناصرية والوحدة العربية، أصبح من عالم آخر منذ نهاية التسعينيات.
وهذا آخر أفنى عمره في تأسيس برنامج الفضاء المصري، وذلك رابع كان من رواد علم النفس في مصر كلها.
يجمع كل هؤلاء الـ «حمزة يونس» محاولة التمسك بالوجود في العالم الحالي، لكن مع احتفاظهم بكامل كرامتهم، وفي الوقت نفسه احترامهم البالغ لنا نحن أبناء العالم الجديد.
لن أنسى أبداً ذلك المسن السبعينيّ العظيم بالغ الشهرة سابقاً، الذي كنت واسطة استضافته في برنامج ما للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، كنت أكلّمه قبلها عن موضوع الحلقة فيردّد: «اللي تشوفه حضرتك، انتم أدرى مني!»، وبعد الحلقة اتصل: «أنا باعتذر جداً لحضرتك إني باخد من وقتك، ممكن تقولي البرنامج هيتعاد إمتى بكرة؟!».. كنت خجولاً جداً من ذوقه البالغ.
في مقابل هؤلاء تظهر صور سلبية إلى حدٍّ مقزّز، ممن رفضوا تماماً الاعتراف بالزمن، وتغيّر العالم.. مثلاً أحدهم كان يشغل منصباً حكومياً هاماً للغاية سابقاً، لكنه على المعاش منذ 10 سنوات ونُسي تماماً، كلّمني كأنه مازال في منصبه المهيب، وكأن عالمه مازال قائماً، وانهال بالسُباب على شباب الجيل «شوية العيال الكذا!»، طالباً أن أنشر كلماته كما هي في الصحيفة!
وآخر كان يشغل منصباً حكومياً متوسطاً – ليس كبيراً جداً! – قال لي بصلفٍ: «إحنا إدينا كتير للبلد طول عمرنا، دلوقتي وقت إننا ناخد بقى، ولو انت واللي مشغلك مش عارفين ده تبقى دي مشكلتكم!»
وطبعاً الأسوأ بمراحل من هؤلاء؛ هم أقرانهم الذين مازالوا بالفعل في مواقع النفوذ والسيطرة، يسدّون كل باب ويمنعون كل تغيير.
(4)
أتمنى ألا يزول عالمي فجأة، أن أظل هنا..
أنا خائف من مصير «حمزة يونس».. خائف من يوم يأتي بعد 30 عاماً يكون الجيل الموجود وقتها لا يعرف أي شيء عني أو عن جيلي.
خائف من نظرة استهجان أو حتى شفقة من شاب صغير لهذا المسن الذي يتحدّث بكلام قديم انتهى عصره، لا يردّده إلا رفاقه من المسنين.
خائف من شاب يقول عني «انتو جيل الهزيمة، انتو سبب كل ما وصلناله»، وخائف في الوقت نفسه من رفيق مسن من جيلي يشتم هؤلاء الشباب الجدد، أو يضيّق عليهم بما له من سلطة وأموال.
لو حدث ذلك؛ أنوي البقاء في منزلي لأرعى أحفادي ما تبقى من عمري، ولو أتيحت فرصة ما للظهور والتأثير سأكون «حمزة يونس» نبيلاً، متواضعاً، محترماً للقادمين الجدد.
أيها القادمون الجدد.. الذين لا أعرفكم، من حقكم تماماً ألا تحترموا من لا يحترمكم، من يريد مصادرة حقكم في الحلم والتجارب الجديدة، لكني من الآن أعد باحترامكم، وأرجو أن تحترموني..

ليست هناك تعليقات: