وائل عبد الفتاح
ستجدهم منتفخين بالثقة.
يتصورون أنفسهم حكماء يطلُّون علينا من أعلى بتجارب متهتكة وآراء باردة وأوهام عن معرفتهم بكل شىء..
يخرجون من كهوف الدولة.. ويجعلون معرفتهم مطلقة/ قَدرية.
ويتصورون أن تثبيتهم لحركة التاريخ سيجعل سوقهم تعود.. يتبادلون فيها حِكمتهم ويثبتون كهانتهم وكل كهانة قادمة..
كهانة مخرِّفة لا تتواضع أمام «الحركة»، تريد الثورة «حدثًا» انتهى يعود بعده الجمهور لينتظر تحليلهم وتعليماتهم لصناعة المستقبل..
لا يتخيلون أن أفكارهم ماتت وشبعت موتًا/ أو على الأقل انزوت أمام عقل جديد يريد أن يصنع دنيا جديدة/ أو مستقبلًا يتجاوز العقل القديم. إنهم مثل باعة المقويات الجنسية وهم لا يفهمون فى الجنس باعتباره تواصلًا إنسانيًّا/ لا مجرد معركة انتصار للذكر القوى (أو للدكر..) كما يقال شعبيًّا/ ويفسرها الحكماء مروجو المقويات بكل ما أوتت بجاحتهم من أناقة فارغة..
مع هؤلاء الحكماء.. تبرق الآن نظريات خارجة من مخازن معتقة عن «عمود خيمة الدولة» و«نواة صلبة» قَدرية لأى حكم بمصر/ كل هذه أوصاف لمحاولة صب النبيذ القديم فى أوانى جديدة. فالحكمة التى استخرجها أنور عبد الملك من تاريخ مصر/ بُنيت على خصوصية/ أن الدولة الحديثة تبنيها المؤسسة العسكرية/ أو بمعنى آخر فإن العبور من الدولة القديمة إلى الحديثة لا بد عبر جسر عسكرى.
يعاد إنتاج المقولات شعبيًّا بأكثر من مصطلح، كلها تصب فى احتياج مصر إلى «رجل قوى يشكمها ويحنو عليها» وبعيدًا عن ركاكة استخدام الفيتش الجنسى فى السياسة فإن نظرية «الرجل القوى» لم تعد صالحة لبناء دول حديثة/ فللقوة حدود/ بعدها تتحول إلى طغيان.. يدارى العجز أو يبرر الاستقالة عن المنتظر من القوة.
كما أن الجمهوريات التى بناها الجيش/ خصوصًا فى مصر/ ظلت تحت الإنشاء/ تراوغ مملوكيتها/ وتغرس عجلاتها فى المسافة بين «التحكم» و«الحكم»..
مبارك كان عسكريًّا/ وبالتحديد من شريحة البيروقراطية العسكرية/ التى ورثت الجيش من الضباط الأحرار/ وقادته بعد عملية إصلاح وتطوير جزئى إلى نصر 73/ وهذا يعنى أنه انقطاع عن فكرة الحكم بشرعية الثورة/ واستبدال شرعية المماليك بها/ الغالب راكب.. وسقوط مبارك وعلى عكس الضجيج الفارغ فى ماكينات الدعاية.. هو سقوط خيار نصف المدنى/ نصف العسكرى أو صلاحية البيروقراطى العسكرى فى إدارة حكم الدولة.
فشل الجهاز السياسى الذى حكم مصر منذ يوليو 1952 حتى يناير 2011/ وهو جهاز كانت السلطة تتصور فيه قدرتها على إقامة «تحالف طبقى/ اجتماعى» تحت رايتها/ لكنها مع الأزمات الاقتصادية والضغوط الاجتماعية حدث صراع حسمته أجهزة الدولة الأمنية لصالحها وقادت البلد إلى هزيمة 67/ وهنا بدأت بوادر إصلاح من أعلى بقيادة عبد الناصر، لكن السادات حوَّلها فى يناير 1971 إلى «تصحيح» أفقد الدولة الأمنية جزءًا من سلطتها لصالح الطبقة المالية، انقلاب من أعلى قام بتفكيك تنظيم الحكم «الاتحاد الاشتراكى» على عدة مراحل ليصل إلى «الحزب الوطنى» الذى لم يصلح كجهاز حكم/ أو لم تثق به الدولة/ وقلبها العسكرى كما لم ينجح فى التصدى لسطوة الجماعات الإرهابية فكان اختيار مبارك الحكمَ بجهاز أمن الدولة، وهو ما كان أحد الأسباب القوية فى سقوطه/ فأُفق أى جهاز أمنى فى الحكم مسدود.
الثورة بكل ما قدمته من جسارة، وتعبيرًا عن طبقة وسطى ابنة المدينة تريد بناء دولة ديمقراطية حديثة، كشفت عن تشققات «سبيكة» الحكم المصمتة، وحشرت أصابعها لتفرض أو لتفتح المجال السياسى أمام قوى جديدة.
هذه المتغيرات لا يمكن تجاهلها بداية من فشل عناصر الحكم فى «الدولة القديمة» وليس انتهاءً بوقوف القوى الجديدة عند مرحلة «حشر الأصابع» وعدم قدرتها بعد موجات ثورية ومراحل انتقالية على بناء وجودها على الأرض/ بل إن القوى القديمة استطاعت وعبر «سحر الخبرة/ أو المنفعة» اجتذاب عناصر محسوبة على القوى الديمقراطية الجديدة تحت راية التحالف ضد الخطر الإخوانى/ أو على أساس « مصلحة الدولة العليا» شعار السلطوية المبهر فى التعلق به/ وتحويله إلى مظلة تسقط من أعلى/ ليتوهم الشخص أنه «ابن الدولة» أو ما تسميه الأدبيات السياسية «الدولاتى» المحايد فى الصراعات السياسية/ العارف وحده بمصلحة «الدولة»/ الحامى وحده «الدولة من سقوطها».
الوهم الكبير هنا هو انتظار التغيير من أعلى/ أو اعتبار أن الصراع الحالى هو كلمة النهاية/ فى الثورة أو فى بناء جمهورية جديدة.
الشقوق فى الأعالى تحاول تغطية نفسها بواجهات برَّاقة/ منها مثلًا التفاف قطاعات شعبية حول الفريق السيسى واعتباره بطلًا ومنقذًا/ وهى حقيقة لا يمكن البناء عليها/ لكنها تعبر عن فراغات هائلة فى الواقع السياسى/ وفى الوقت نفسه عدم ثقة فى المعارضة القادمة من الماضى والتى احتلت صدارة المشهد بعد ثورة يناير/ باعتبار أن الثورة تمثل استحقاقها فى الحكم/ أو مكافأة نهاية الخدمة فى هامش مبارك الديمقراطى.
السيسى وبطولته يمكن أن تبتلع فى الفراغ الذى يمثل ثقبًا أسود فى الدولة المصرية/ فالبطل الذى لم يُختبَر يثار الجدل حوله قبل أن تترسخ سلطته/ وقبل أن يجد جهازه السياسى الحاكم/ بمعنى أنه سيقع فى فخ الذين قادوا الدولة إلى الفشل.