الاثنين، 3 نوفمبر 2014

الفصل الثاني عشر من رواية الباب الأخضر لصديق الحكيم




(12) قرار رقم واحد
ها قد وصلنا إلي منزلكم العامر بحارة الست نعيمة
اتفضل انزل يا عم الحبيب أنت كنت سرحان في إيه طول الطريق وباصص للبحر وصوت تنهيداتك أعلي من صوت ارتطام الموج علي الصخور
ومحمود يردد في نفسه القول المأثور (ما استحق أن يولد من عاش لنفسه)
ويبدو أنه قد اتخذ قرارات مصيرية ستغير معالم حياته القادمة وقبل القرارات كانت لديه الجرأة ليغير نفسه حتي وإن أسر ذلك في نفسه ولم يبده لأحد
ولعل هذا بحق هو القرار رقم واحد في حياة أي إنسان (قرار تغيير ما بالنفس من شرور وضلالات إلي الخير والاستقامة )
وبذلك يصدق عليه قول عبد الرحمن منيف (قرأت ذات مرة أن أكثر الذين يتخذون المواقف الجريئة، هم اقل الناس حديثا عن الجرأة)
-لا عليك اتفضل
-ودخل الاثنان مباشرة إلي حجرة كبيرة لها باب مستقل من خارج المنزل وفيها توجد ثلاث كنبات بلدي مفروشة بعناية ومكتبة كبيرة عامرة بالكتب وبنظرة سريعة عليها يبدو أنها مكتبة مشتركة لكل الأسرة الأب ومحمود والميمات وعلي الحوائط صور معلقة للعائلة ومناظر طبيعية وشهادات دراسية لمحمود والميمات وبروفايل للحاج حنفي بتوقيع مها حنفي
- سلمت وجلست بجوار حماي المنتظر ودخل محمود إلي داخل البيت من الباب الأخر للغرفة
-في الغرفة أنا وحماي نستمع لقرآن المغرب بصوت الشيخ محمد رفعت
وصوت الزغاريد تصدح مدوية قادمة من الداخل
يبدو أن نبأ تقدمي لخطبة مديحة لم يصبح سرا
وجاءت حماتي وعلي محياها السرور وهي تقول :ألف مبروك يا حسين ربنا يتمم بخير
ودخل محمود بعدها وجلس إلي جواري
وأحضرت مديحة طبلية كبيرة ووضعتها علي الأرض التي فرشت بسجادة كبيرة وتبادلنا النظرات خلسة
خرجت مديحة ودخلت مها وفي يدها مفرش كبير لتضعه علي الطبيلية
جلست الأم لتنظم الأطباق التي تأتي تباعا حيث ترسلها ماجدة- الطباخة الماهرة –مع ميرفت ومها
وبعد دقيقتين رفع آذان المغرب
ونهض الحاج حنفي من علي الكنبة ودعاني للجلوس بجواره علي الطبلية
الآن التئم شمل الأسرة
الجميع جلس حول الطبلية زي زمان
إن جلسة كهذه لا تقدر بأي ثمن إنها نوع من السعادة يفتقده كثير من الناس في عالمنا المادي الذي يفضل فيه البعض البعد والانعزال
لقد كذبت مارجيريت ميتشيل عندما قالت في روايتها الشهيرة ذهب مع الريح (إن من العسير أن ينال المرء كل ما تصبو إليه نفسه فالقدر ضنين في آمال الناس )
لا أتفق معك يا مارجيريت فجلسة كهذه فيها من السعادة ما يكفي وزيادة علي الأقل بالنسبة لشخص مثلي تعود علي الوحدة والعزلة
وزعت الأم التمر هندي والعصير والماء المثلج الذي جاء في وقته تماما بعد هذه الأوقات العصيبة التي مرت علي ليلة أمس
وبعد المشروبات وزعت الأم المنابات من المشويات والمقليات لحوم ودكر بط بلدي محمرم بطعم عصير البرتقال إنه أحد ابتكارات الشيف ماجدة
ويبدو أن محمود سيخرج عن صمته وسيقول شيئا يبدو أنه مهم جدا
-الله ينور يا شيف ماجدة وطبعا المساعدات ولا ننسي الإشراف العام للحاجة قالها محمود كتسخين لكلام يأتي بعد
-ابتسم ونظر حوله والجميع يرمقه  ثم طرق بالملعقة علي الكوب الزجاجي ليجذب إليه الانتباه أكثر
-النهاردة أنا جمعتكم
-جمعتكم عشان مش فاضي بكرة (قالتها ميرفت كدعابة )
ضحك الجميع
-لا بجد عندي خبر أو قرار عاوز أقوله وقبل القرار اعتذار لابد منه
الاعتذار لأمي ولأبي
وقام من مكانه ليقبل رأس والديه وترقرقت دمعات حارة  من عيون كل الحاضرين  لتذرف علي خدودهم في لحظة صمت رهيبة من أجل هذا المشهد المؤثر والمثير للمشاعر
لا يعلم الجميع لماذا سبب لهم حركة محمود هذا القدر الكبير من الشجن
عاد محمود لمكانه علي الطبلية وواصل بيانه المصيري
وأعتذر للميمات
الجميع سيسألني لماذا أعتذر ؟
اليوم اكتشفت حقيقة خطيرة هي : أنني كنت محب لنفسي فقط أي أناني
أعتمد مبدأ الصراحة في الهروب من المسؤولية والتي تساوي فعليا
أنا ومن بعدي الطوفان
أعتذر لأنني كنت أنظر إلي أهدافي فقط في الحياة دون أدني اعتبار لمشاعر وتطلعات المحيطين بي وخصوصا أبي وأمي وأخواتي
الأم :كفاية يا محمود إنت ابننا ونتمنالك كل خير
وتعقب مديحة :كفاية جلد للذات قلنا علي القرار
محمود في حركة تمثيلية يتقمص فيها شخصية أحمد زكي في فيلمه التاريخي الرائع  ناصر 56
قرار رئيس الجمهورية 
فترد مها بصوت ثخين :قرار رقم واحد ولا تستطيع استكمال الجملة من كثرة الضحك
-خلاص يا مها كفاية  يقولها محمود في حزم
بعد إذن بابا طبعا حسين طلب إيد مديحة وأنا وافقت
الأم في زغرودة مدوية قطعت نفسها
ومديحة تنسحب في هدوء إلي غرفتها ربما خجلا وحياء من الموقف
وماجدة خلفها
لكن ميرفت تعقب عقبالي يا رب
والجميع يضحك والسعادة تعم المشهد بعد لحظات الشجن السابقة
وهنا يتذكر حسين الذي قام يقبل محمود ويحتضنه  قول
الروائي الروسي العالمي ليو تولستوي في افتتاح رواية أنّا كارينينا:
 "كل العائلات السعيدة تتشابه، لكن لكل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة."
ويطرق محمود مرة أخري علي كوب الماء بملعقته والأب ينظر إليه بفخر لأنه حمل المسؤولية أخيرا واضطلع بدوره الطبيعي في الأسرة
-القرار الثاني :قررت تأجيل زواجي حتي أزوج الميمات جميعا
تصفيق حاد من مها وميرفت
لكن الأم تنظر لهما شذرا فتتوقفان عن التصفيق ويتكهرب الجو
وتنطق الأم في لغة جادة : إيه اللي يخليك تنتظر كل الوقت ده عاوزين نفرح بيك يا محمود أنت البكري وبعدين البنات لسة بدري وكمان مجاش نصيبهم ولو علي مديحة وحسين ميهمكش
-حسين يعقب عندي حل وسط : نتزوج أنا ومحمود في فرح واحد
-محمود وهو يبتسم  : بركاتك يا حاجة تحية  كانت دي دعوتها النهاردة وربنا استجاب لها علي طول شكلها مكشوف عنها الحجاب
-الأب أنا موافق علي رأي حسين
-تذهب مها لتنادي علي مديحة وماجدة من الحجرة ليشهدن قراءة الفاتحة
فاتحة حسين علي مديحة
يقرأ الجميع الفاتحة
آمين
ألف مبروك يا حسين
ألف مبروك يا مديحة ربنا يتمم بخير
حسين :بكرة إن شاء الله بعد صلاة العشاء هجيب أختي تحية ونروح الصاغة عشان نشتري شبكة بسيطة لمديحة
الأم : تشرف الست تحية ويمكن إحنا كمان نجيب شبكة محمود بكرة
بس بكرة ممكن يكون الوقفة
ماجدة :لسة بكرة 28 رمضان يا ماما
الأم :شكلي عندي البتاع اللي اسمه الزهايمر ،حتي إني نسيت أسألك يا حسين عن أخواتك البنات غير الست تحية أخبارهم إيه ويقدروا يشرفونا ولا إيه ؟
-حسين :عندي أختين غير الحاجة تحية هما سعاد وسهام
سعاد صيدلانية ومسافرة مع زوجها جراح العظام في الكويت
وسهام كلية علوم وهاجرت مع زوجها مهندس الكومبيوتر إلي كندا
-محمود مفيش مشكلة أهل سلوي منتظرنا بكرة علشان ننقرأ الفاتحة وبعدين نطلع كلنا نجيب الشبكة ليا ولحسين
-هكلم سلوي الآن
-آلو سلوي
-أهلا حبيبي لحقت تفطر بسرعة كدة
-أيوة
-إن شاء الله هنجي بكرة زي ما قلتلك
-ماشي إحنا مستعدين تشرفونا كلكم
خلاص ماشي هكلمك بالليل سلام
-سلام
الأوقات السعيدة تمر في سرعة البرق
ينتهي المجلس الحافل بكل لحظات الشجن والفرح

علي وعد بلقاء جديد مع أوقات جديدة للسعادة والفرح 

ليست هناك تعليقات: