على مدى عقود من الزمن ظلت المؤهلات المهنية تعد بحياة مريحة، إن لم تكن مزدهرة. كان المحاسبون والمهندسون والأطباء وأساتذة الجامعات يعيشون جنباً إلى جنب في الأحياء نفسها، وغالباً ما كان أبناؤهم يتلقون تعليمهم في المدارس نفسها.
لكن دراسة أجرتها "فاينانشيال تايمز" أظهرت أن ما يشبه التكافؤ، الذي كان موجوداً في الطبقة الوسطى البريطانية في السابق، تبخّر خلال السنوات الـ 40 الماضية.
وتوضح بيانات أعدّها الاقتصاديان بريان بيل وستيفين ماشين، الحظوظ المتباينة بشكل حاد لمجموعة كانت موحدة كثيراً في السابق.
وفي عصر المصرفيين النجوم قد يبدو ذلك مدهشاً، لكن في عام 1975، قبل تحرير الأنظمة في الحي المالي في لندن، كانت أرباح العامل المتوسط في الخدمات المالية في لندن أدنى مما كانت تحصل عليه نسبة كبيرة من غيره من المهنيين.
وبحلول كانون الأول (ديسمبر) الماضي، عندما تم نشر آخر بيانات الرواتب، كانت الطبقة الوسطى المهنية في بريطانيا قد انقسمت إلى مجموعتين متميزتين، أطلقت عليهما "فاينانشيال تايمز" اسم "الطبقة الوسطى العُليا" - وهي مجموعة صغيرة لكنها غنية من ضمنها المصرفيون - ومجموعة أكبر بكثير هي "المرابطون"، مثل الأكاديميين، والمهندسين الميكانيكيين، والعلماء الطبيعيين، الذين ربما يكافحون للحفاظ على مستواهم المعيشي.
لكن البيانات تقلّل من مقدار واقع الفجوة بين الأغنياء جداً والبقية، لأنها لا تشتمل على أرباح الأسهم التي يحصل عليها الشركاء في شركات المحاماة أو شركات الاستشارات الإدارية الكبرى، التي لا يتم الكشف عنها علناً. وجادل البروفيسور بيل، وهو أستاذ مشارك في الاقتصاد في جامعة أكسفورد، بأن مستوى التعليم أو المهارة المطلوبة للوصول إلى قمة بعض المهن ارتفع في العقود الأربعة الماضية. وفي الوقت نفسه، ارتفع العائد أيضاً، على شكل أجور مرتفعة للذين يتمتعون بالمهارات العليا، بسبب انفتاح اقتصاد بريطانيا على بقية العالم.
وقال: "كان المتداول في أي بنك استثماري يدير 100 مليون دولار. الآن يتولى إدارة مليار دولار. وفي حين لا يزال أساساً يؤدي العمل نفسه، يتم الدفع له الآن نسبة من مبلغ أعلى بكثير فقط نتيجة توسيع نطاق التأثير".
وينطبق الشيء نفسه على المحامين الذين يعملون على صفقات استحواذ، التي ربما تنطوي الآن على شركات لديها عشرة أضعاف القيمة السوقية لتلك التي كانوا يعملون عليها منذ جيل.
ومنذ فترة طويلة تُعتبر الأرباح الكبيرة في الحي المالي في لندن على أنها مقايضة بين ساعات العمل القاسية وانعدام الأمن الوظيفي. وعلى عكس معظم العاملين، فهم أيضاً جزء من مجموعة مواهب دولية.
مع ذلك، نتيجة البحث التي تُبين أن الأطباء قاموا باستمرار بمماثلة مسار الأرباح التي يحصل عليها العاملون في الحي المالي، قد تكون أكثر إثارة للجدل، وتثير تساؤلات حول تأثير الإنفاق الذي أغدقته حكومة العمال في عهد توني بلير على خدمة الصحة الوطنية.
ووفقاً للبيانات، إن قفزة المهنة الكبرى إلى الأعلى تزامنت مع تقديم العقود الجديدة للأطباء العموم والمستشارين في عامي 2004 و2005 الذين قُدمت لهم علاوات وأجور سخية، وفي الوقت نفسه أتاحت لهم الفرصة للتخلي عن بعض جوانب عملهم، مثل تغطية خارج أوقات العمل لأطباء العائلة.
لكن مارك بورتر، الذي يترأس المجلس الحاكم لاتحاد الأطباء البريطانيين، يقول إن الأجور على أساس سنوي تتجمد والأجور التي دون حد التضخم ترتفع، ما يعني أن "الأغلبية العظمى" من الأطباء شهدوا أجورهم تنخفض بالمعدلات الحقيقية خلال الأعوام الأخيرة.
وأشار بيل إلى أن الأطباء كانوا المجموعة الوحيدة من عاملي القطاع العام الذين كانت أمورهم جيدة. وقال: "عاملو القطاع العام اختفوا تقريباً من قمة توزيع الدخل".
ويجادل هنري أوفرمان، أستاذ الجغرافية الاقتصادية في كلية لندن للاقتصاد، بأن البيانات تؤكد الفجوة المتنامية ليس فقط بين المهن، لكن في داخلها أيضاً.
وقال: "لندن وجنوب شرق البلاد ليست مجرد قصة عن التمويل، بل عن التركيز على العاملين من ذوي المهارة العالية في العديد من المهن المختلفة. فإذا نظرت إلى المهندسين المعماريين الذين يحصلون على أعلى الأجور، فسيكونون جميعاً موجودين في لندن. لذلك هناك تصنيف مهني موجود داخل المهنة، كما هو فيما بينها".
وبالتفكير في موقع المهنة المتغير، قال المعهد الملكي للمهندسين المعماريين البريطانيين: "قد يكون للمنافسة المتزايدة دور كبير في الاتجاهات التي نراها اليوم".
وقال بيتر فاينجولد من معهد المهندسيين الميكانيكيين إنه على الرغم من أن المهندسين الميكانيكيين شهدوا رواتبهم تنخفض من الناحية النسبية، إلا أنها بقيت مهنة "مربحة"، فضلاً عن كونها ذات قيمة اجتماعية.
وأضاف أن المهندس العادي قد يجني أكثر من متوسط الأجر بنسبة 19 في المائة والمهندس المسجل في مجلس الهندسة (الهيئة التنظيمية البريطانية للمهندسين) قد يجني أكثر من متوسط الراتب الوطني مرتين ونصف المرة.