لا أحد ينسى هذه العبارة التلقائية التى جاءت على لسان الدكتور البرادعى عقب تنحى مبارك فى إحدى المقابلات، ولم يكن الرجل وحده الذى يشعر بأن دولة الخوف والقمع قد ذهبت إلى غير رجعة عقب ثورة يناير التى قامت فى الأساس لأسباب تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان والتعذيب وإهدار كرامة المصريين بالتوازى مع مطالب العدالة الاجتماعية.
كان هذا الشعور بالأمان والكرامة والعزة يملأ قلوب المصريين ليس بسبب ما حدث للداخلية التى ورطها النظام فى مواجهة الناس على مدار ثلاثين عاماً، وإنما لإحساس الناس أن كل المؤسسات والأشخاص سيعيدون حساباتهم ويتغيرون بعد انهيار نظام الاستبداد وسقوط رموزه وبدا فى هذه اللحظات من مواقف الجميع أن الكل قد استوعب الدرس، وأصبح يتبرأ من الماضى البائس وممارساته.
سمعت هذا الكلام من اللواء عمر سليمان فى لقائنا الشهير به حين قال لنا: «نحن بالفعل لم نفهم جيلكم ولم ندرك أن رؤيتكم وأحلامكم للوطن تختلف عمن سبقكم، وبعد ما حدث فى انتفاضتكم ستتغير أشياء كثيرة رغماً عن الجميع أياً كان من سيحكم مصر بعد ذلك»، نفس الخطاب والتوجه سمعناه من الفريق شفيق قبل إقالته ومن قيادات أمنية كبيرة عقب التنحى أثناء اجتماعاتنا مع وزير الداخلية حينها كمجموعات حقوقية وسياسية وإعلامية لبحث سبل إعادة بناء منظومة أمنية جديدة تقوم على احترام حقوق الإنسان، وتقديم خدمة أمنية مهنية للمواطن، وتحقيق مصالحة بين الشعب والشرطة التى كانت كل قياداتها فى هذه اللحظة تتبرأ من نظام مبارك، وتلقى باللوم على القيادة السياسية التى وضعت رجال الشرطة فى مواجهة الشعب مما جعل الثمن الذى دفعته الشرطة باهظاً حين انفجر الغضب الشعبى.
هل تحققت هذه المصالحة بالفعل؟ الحقيقة أن ما يروجه البعض عن تحققها عقب 30 يونيو هو اختزال لمعنى المصالحة، وتأجيل لقنابل موقوتة ستنفجر فى أى لحظة، المصالحة بين الشعب والداخلية ستكون بإنهاء الممارسات التى صنعت الشرخ، وبناء منظومة صارمة تمنع تكرارها وتضمن مساءلة المتجاوزين فقط حتى لا يكون هناك تعميم فى رسم صورة سلبية عامة تشيطن كل من يرتدى زى الشرطة.
كثير من شهداء الشرطة الذين يسقطون كل يوم يدفعون ثمن أخطاء لا علاقة لهم بها، وبينما تحترق قلوبنا ونبكى كل شهيد شرطياً أو عسكرياً أو مدنياً فإن المنطق يقتضى البحث عن حل المشكلة من جذورها وإنهاء حالة الثأر المتصاعدة يومياً فى مصر، وليس مضاعفتها عبر خلق ثارات جديدة تضاف إلى انتهاكات أخرى لم يحصل أصحابها على حقوقهم.
تكرار الممارسات يؤدى لنفس النتائج مع الوضع فى الاعتبار أن تأخر تحقيق العدالة يثير الرغبة فى الانتقام العشوائى، لذلك فلنحم شرطتنا بإقامة دولة القانون، ولنستوعب دروس الماضى القريب، ولا يخيل لبعضنا دوام الحال واستقراره فهذا ما أفشل من قبلنا.
ولنميز بين الإرهابيين القتلة الذين تجب مواجهتهم بكل قوة والأبرياء الذين يتعرضون لانتهاكات بالغة لن يفيد إنكارها أو تبريرها، مصر فى مفترق طرق شديد الخطورة يحتاج إلى صوت عقل ينقذ المسار من الانهيار حتى لا ينهار المعبد على رؤوس الجميع، المخلصون سيظلون ينصحون، والمدلسون سيستمرون ينافقون، وأصحاب القرار يختارون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق