الاعلامي الكبير حمدي قنديل كان ولازال ناصريا مخلصا وقد بزغ نجمه في عهد عبد الناصر فأصبح ــ عن جدارة ــ رائدا للصحافة التليفزيونية ومن أهم الاعلاميين العرب وأكثرهم تأثيرا .
في عام 1961 قدم حمدى قنديل في التليفزيون المصري برنامجه الشهير " من أقوال الصحف " الذى حقق نجاحا كبيرا ظل يتزايد مع كل حلقة حتى أذاع قنديل الحلقة الخامسة ،
عندئذ فوجيء برئيس تحرير الأخبار في التليفزيون يستدعيه ويقول له :
ــ يا أستاذ حمدي معالى الوزير بيقولك استريح أنت شوية
كانت هذه الجملة توجه آنذاك الى من غضبت عليه السلطة فتوقف قنديل عن تقديم البرنامج وسافر الى رأس البر لكنه أجرى اتصالات حتى عرف لماذا هو مغضوب عليه ،
كانت جريمته الكبرى أنه أذاع خبرا عن الرئيس عبد الناصر في آخر البرنامج وليس في بدايته كما تذاع أخبار الرئيس . لم يستسلم قنديل وانما ذهب بدون موعد الى السيد سامي شرف مدير مكتب الرئيس وحكى له ما حدث ، ثم سأله :
ــ أريد أن أعرف من الرئيس شخصيا اذا كان يعترض على اذاعة خبر عنه في نهاية البرنامج ..
نقل سامي شرف السؤال الى الرئيس وعاد ليقول :
ــ يأ استاذ حمدى الرئيس عبد الناصر بيقولك ارجع التليفزيون واستأنف البرنامج ولا تتكلم مع أحد في هذا الموضوع .
هكذا عاد قنديل الى تقديم برنامجه وكأن شيئا لم يكن وفي عام 1967 عندما لاحت نذر الحرب كان قنديل مثل المصريين جميعا واثقا من انتصار الجيش المصرى على اسرائيل وراح يقدم رسالة يومية مصورة من الجبهة
وفي يوم 5 يونيو ذهب الى قاعدة فايد الجوية وتناول افطاره مع الطيارين وفجأة استمع الى انفجارات مدوية متتوالية أحدثها القصف الاسرائيلي .
انطلق قنديل بسيارة التليفزيون حتى وصل الى مبنى نادي الطيارين وهناك وجد نحو عشرين طيارا حربيا مصريا يصيحون بهستيرية حتى أن أحدهم ظل يخبط رأسه في الحائط حتى سال دمه .
عرف منهم ان طائراتهم الحربية قد دمرتها اسرائيل وهي على الارض وان ثلاثة فقط من زملائهم استطاعوا أن يقلعوا بطائراتهم لكنهم لايعرفون مصيرهم .
خرج الاستاذ قنديل من القاعدة وهو في حالة نفسية سيئة فقابل حسين الشافعي ــ عضو مجلس قيادة الثورة ـــ الذى سأله ان كان لديه معلومات مفصلة عما حدث فأجابه قنديل بما عرفه
عندئذ طلب منه الشافعى ان ينصحه بالطريق الذى يسلكه وهو عائد الى القاهرة ونصحه قنديل بالطريق الصحراوى لأنه أكثر أمنا
**************
.. هاتان الواقعتان حكاهما حمدى قنديل في سيرته الذاتية البديعة التى صدرت عن دار الشروق بعنوان " عشت مرتين " .
وبالرغم من أنه أورد الواقعتين منفصلتين الا اننى أراهما متصلتين تؤدى احداهما الى الأخرى .. مذيع ناجح موهوب ، مؤيد للنظام ومخلص للثورة يقرأ خبرا عن الرئيس عبد الناصر في آخر البرنامج فيعتبر تصرفه جريمة ويتم وقفه عن العمل فورا بلا تحقيق ولا فرصة للدفاع عن نفسه وهو يضطر الى تقديم شكوى للرئيس نفسه حتى يعفو عنه .
هنا تبدو لنا دولة الاستبداد في أوضح صورها : زعيم يتم رفعه فوق مستوى البشر ويصير فوق مستوى النقد ويعتبر كل قرار يتخذه نموذجا للحكمة والعبقرية ثم اعلام موجه لايقول الحقيقة وانما يتحول الى آلة تضليل جبارة تغسل أدمغة الناس وتعيد تشكيلها على النحو الذى يريده النظام ثم قانون يتم تعطيله وتشغيله وفقا لاحتياجات النظام وأهدافه
ودولة بوليسية تمتد أذرعها لتتحكم في كل شيء وهي تقمع المواطنين فلا يعترض أحد اما خوفا من مصير مجهول أو لأنه لاصوت يعلو فوق المعركة ..
الزعيم يتحول من مسئول سياسي الى والد للشعب ورمز للوطن فلا يجرؤ أحد على معارضته ولا حتى مناقشته في قراراته ،
النتيجة الحتمية لذلك أن ينعزل القائد عن قراءة الواقع بعد أن يجتمع حوله من يسمعونه مايحب ــ خوفا أو طمعا ــ حتى تأتي لحظة يتخذ فيها الزعيم قرارا يؤدى الى كارثة وهذا ما حدث في الواقعة الثانية ففي ظل الاستبداد تعرض الجيش المصري لهزيمة منكرة لاذنب له فيها والطيارون الشجعان يشعرون بالخزى والقهر لأنهم لم يتمكنوا من أداء واجبهم دفاعا عن بلادهم نتيجة لفشل القيادة العسكرية واستهتارها وسوء تقديرها
بل ان المأساة تصل الى حد المهزلة عندما يظهر حسين الشافعى وهو عسكري بارز فيسأل الاعلامي حمدي قنديل عن أكثر الطرق أمنا .
صحيح ان الجيش المصري استوعب صدمة الهزيمة واستطاع أن يعيد بناء قوته في وقت قياسي ثم خاض ببسالة حرب الاستنزاف ثم حرب اكتوبر التي ثأر فيها من هزيمة 67 وحقق نصرا سنظل نحن المصريين فخورين به لكن الدرس هنا أن الاستبداد لابد أن يؤدى الى الهزيمة مهما كان الزعيم مخلصا ومحبوبا ومهما كانت المعارك التى يخوضها مشروعة .
ما أحوجنا اليوم الى استيعاب هذا الدرس. لقد نزل ملايين المصريين الى الشوارع في 30 يونيو للتخلص من حكم الاخوان وانحاز الجيش للشعب فحمى ارادته وجنب مصر خطر الحرب الأهلية وبزغ اسم المشير السيسي فأحبه المصريون واعتبروه بطلا شجاعا .
لكن ذلك الحب يتحول الان الى هالة أسطورية يتم صنعها حول المشير السيسي كثيرا ما تستعمل أثناءها ذات العبارات التى استعملت مع الزعيم عبد الناصر :
الاعلام يصف السيسي بأنه الزعيم الضرورة والمنقذ الوحيد والمخلص الذى تنعم به السماء علينا كل مائة عام
بل ان كاتبا معروفا صرح منذ أيام في التليفزيون ان المصريين يحبون اسم السيسي منذ ستة آلاف عام لأن النهر المقدس عند الفراعنة كان اسمه " سيسي رع " ..
يتم رفع السيسي الآن فوق مستوى البشر فلا يجوز لأحد ان ينقده أو حتى ينافسه في الانتخابات
وهو الذى يعلم مالانعلمه ويتخذ قرارات دائما في صالحنا حتى ولو لم ندرك الحكمة منها والزعيم متردد منذ شهور في الترشح للرئاسة وعلينا نحن المواطنين أن ننظم مسيرات يومية حتى نضغط عليه فيتنازل ويقبل أن يكون رئيسا لمصر.
المشير السيسي يقود الشعب في معركة حقيقية ضد الارهاب كما كان عبد الناصر يقود الشعب في معركة حقيقية ضد الاستعمار
وللأسف فان المعركة استعملت في الحالتين لتبرير القمع فيتم اعتقال الابرياء وتعذيبهم وتلفيق التهم لهم واهدار كرامتهم ولايجوز في نظر النظام الاعتراض على هذه الجرائم لأنه لاصوت يعلو على صوت المعركة .
في يوم 12 فبراير الماضى اجتمعت 16منظمة حقوقية لتصدر بيانا مشتركا لادانة حالات القمع والتعذيب الموثقة التى يتم فيها انتهاك آدمية المصريين وسط تجاهل السلطة الحالية التى يرأسها قاض جليل نتوقع منه أن يكون الأحرص على حقوق الناس .
وهنا تفتح مدفعية الاعلام الموجه نيرانها على الحقوقيين لأنهم أدانوا التعذيب فتتهمهم بالعمالة والخيانة .
يوما بعد يوم نكتشف أن الدستور الذى انهمك المصريون طويلا في مناقشته بندا وبندا ووافقوا عليه بأغلبية كبيرة لا قيمة له حتى الآن لأنه لم يتم تطبيقه بل ان معظم ما تفعله السلطة مخالف للدستور .
الدستور حدد الانتخابات البرلمانية قبل الرئاسية لكن السلطة فعلت العكس والدستور يحمى الحياة الخاصة للمواطنين ويحرم التنصت عليهم بغير اذن قضائي بينما القنوات الخاصة تذيع كل ليلة أدق التفاصيل الشخصية للناس عن طريق تسجيلات لا نعرف مدى صحتها ويجرمها القانون لكن الغرض تشويه الثوريين واتهامهم بالعمالة والخيانة ،
الدستور يمنع التعذيب بينما يتعرض له المسجونون كل يوم بواسطة ضباط آمنين من العقاب .الدستور يبيح التظاهر بينما شباب الثورة يقضون أعواما في السجن لأنهم تجرأوا على التظاهر بعكس ارادة السلطة والدستور يبيح الاضراب بينما عمال السكة الحديد مسجونون بتهمة الاضراب ،
كان يفترض أن يكون الاعلام بعد الثورة محترما وصادقا لكن الاعلام في مصر في معظمه موجه لمصلحة النظام اما عن طريق التليفزيون الرسمي الذى لا يعرف الا التضليل وصناعة الأكاذيب واما في القنوات الخاصة المملوكة لرجال أعمال كثيرون منهم صنعوا ثرواتهم بفضل قربهم من مبارك وأسرته وهم يدفعون في اتجاه عودة نظام مبارك حتى يضمنوا أن أحدا لن يحاسبهم على الاراضى التى استولوا عليها والأموال التى نهبوها.
الدستور يدعو الى عدالة انتقالية تحقق القصاص للضحايا بينما وزارة العدالة الانتقالية لاتفعل شيئا ومع احترامنا لقضائنا الشامخ فان أحدا لم تتم ادانته بعد قتل آلاف المتظاهرين .
الدولة تخوض معركة ضد الارهاب وواجبنا أن ندعمها وشهداء الجيش والشرطة أبطال عظام يستشهدون دفاعا عن الشعب لكن الحرب ضد الارهاب لا تبرر عودة الدولة البوليسية لأننا لن ننتصر على الارهاب الا بدولة القانون .
يعلمنا التاريخ ان حقوق الانسان وكرامته أهم من أية معركة وانه يستحيل على سلطة تقمع مواطنيها أن تنتصر مهما كانت معاركها مشروعة ووطنية .
المواطن الذليل الذى يتم تعذيبه وانتهاك عرضه لن يصلح جنديا في أية معركة حتى لو كان مقتنعا بعدالتها.. مصر تتجه الآن بطريقة مقلقة الى نظام بوليسي هو أبعد ما يكون عن أهداف الثورة.
لقد سقط الاف الشهداء وهم يحلمون بدولة ديمقراطية عصرية تحترم مواطنيها وتنفذ القانون على الجميع بغير تمييز ..
اذا أراد المشير السيسي اصلاح المسار فان ذلك يكون في رأيي باتباع الخطوات التالية :
أولا: أن يتقاعد المشير السيسي ويترشح للرئاسة كمواطن عادى لاعلاقة له بالقوات المسلحة ولا يتلقى أى دعم من اجهزة الدولة ثم يخوض انتخابات تتوفر فيها شروط النزاهة مثل تكافؤ الفرص بين المرشحين وشفافية التمويل والالتزام بالحد الأقصى للانفاق على ان يتم تنفيذ القانون على المرشحين بغض النظر عن شخصياتهم .
ثانيا : ايقاف العمل بقانون التظاهر لانه غير دستوري والتوقف عن تلفيق التهم للناس والامتناع عن تعذيب المواطنين واحالة الضباط المتورطين في التعذيب الى محاكمات عاجلة
ثالثا : تفعيل وزارة العدالة الانتقالية وتكوين لجان مستقلة للتحقيق في مقتل الاف المصريين منذ بداية الثورة وحتى الآن
رابعا : تفعيل ميثاق الشرف الاعلامي والامتناع عن تلويث سمعة المواطنين واتهامهم بالخيانة في وسائل الاعلام لمجرد أنهم يختلفون في الرأى مع السلطة
خامسا : فتح حوار حقيقي مع الشباب الذين فقد معظمهم ثقته في السلطة الحالية بعد أن رأوا زملائهم يتعرضون للاعتقال والتعذيب وتلاحقهم اتهامات العمالة والخيانة
هذه الخطوات في رأيي من شأنها اصلاح المسار والا فاننا ماضون نحو استبداد جديد وكل استبداد في التاريخ نهايته المحتومة كارثة نتمنى لمصر أن تتجنبها .
الديمقراطية هي الحل
العنوان الإليكتروني
Dralaa57@yahoo.com