الأحد، 28 ديسمبر 2014

نماذج من تأثير الأدب العربي على الأدب الغربي (3)



قصة "البلبل والوردة" :
تتردد قصة "البلبل والوردة " في آداب أمم وشعوب مختلفة ، من الشرق ومن الغرب، في الأدب العربي، وفي الأدب الفارسي، والهندي، والآداب الأوربية، فما الذي يجمع بين هذه الآداب ؟ هل يعود الأمر، لما يسميه "فان تيجم" "مودة أدبية عالمية، يقول:"حين يكون تأثير كاتب معين أو عدد من الكتاب، يجمعهم نجاحهم في الخارج، واقعا على مختلف الآداب في واحد، قيل أن هناك مودة أدبية عالمية، مثال ذلك "مودة " القصائد الرمزية المستوحاة من "قصة الوردة" "  . ولكن ، هل يمكن اعتبار "قصة البلبل والوردة" ، تدخل في إطار تأثير كاتب معين، وفي عصر معين ؟ يجيب  "فان تيجم" نفسه عن السؤال بقوله :"وبديهي أن بعض التأثيرات المتنقلة لم يكن مركزها مؤلفا واحدا" . ولا يمكن أن ، أيضا، أن يكون التأثير لعصر واحد. وإذا كان "تيجم" يتحدث عن التأثير والتأثر بين آداب اللغات الأوربية وعصورها، فإن غيره، توسع في طرح السؤال ليشمل ثقافات أخرى، يأتي على رأسها الثقافة العربية الإسلامية، التي سادت في منطقة جنوب وشرق أوربا لفترة تاريخية طويلة، وترجمت نفائسها إلى اللاتينية واللغات الأوربية القومية، كما أن الاحتكاك الذي حدث من الجهة الشرقية، إبان الحروب الصليبية، أو عن طريق اللغة التركية التي توغلت في هذه الجهات. ويرى "فان تيجم" ، أن إسبانيا كانت إلى عام 1660 م ، موردا لأوربا كلها "تستمد منها موضوعات مسرحياتها ومواقف ملاهيها ومآسيها" . ولا أحد ينكر التأثير العربي الإسلامي في الأدب الإسباني.
ألا يمكن أن نتساءل حول نص "أوسكار وايلد" (Oscar Wilde ) (1856-1900 )"البلبل والوردة"، إذا كان هناك تأثير أو تأثر للقصة ، كما هي معروفة في الشرق، فيما كتب وايلد ؟ أم أن الأمر، لا يعدو أن يكون مشتركا إنسانيا عاما، أو أن "تغريد البلبل لا يعدو أن يكون قد أوحت به العاطفة الشعرية تجاه الطبيعة. وقد تناول الموضوع نفسه، كاتب غربي آخر هو "جيوم دي لوري" وأتمها كاتب آخر هو "جان دي مين" ، وهي رواية "الوردة" . وتتكون هذه القصة من  سبعمائة واثنين وعشرين ألف بيت (22700 ) ، من الوزن الثماني، بقافية تجمع كل بيتين منها، قام بنظمها شاعران هما :جيوم دي لوريس (Guillaume de Louis)، الذي نظم القسم الأول (4260 بيت)، في النصف الأول من القرن الثالث عشر، و"جان دي مونج" (Jean de Meung) ، الذي أتمها ، بعد مرور خمسين عاما، حوالي سنة 1270 م . كما نجد للقصة حضورا  في إبداعات أخرى، مثلما هو الأمر عند "بوشكين" في قصيدة "آه يافتاة ياوردة، إنني في الأغلال"، في قصيدة أخرى تحت عنوان "البلبل والوردة" التي نظمها عام 1827 م ، يقول فيها :
"في صمت الحدائق، في الربيع، في ظلمة اللــيــالــي،
يشدو البلبل الشرقي أعلى الوردة.
 
لكن الوردة الحبيبة لا تشعر، لا تصغي…"

أو عند "غوته" . وإذا كان هذان الأخيران لا ينفيان تأثير الأدب الشرقي في إبداعهم، فإن "وايلد" لا يورد أي إشارة صريحة في الأمر.
يعتبر "أوسكار وايلد"، من أغزر الكتاب إنتاجا، وواضع نظرية "الفن للفن"، كتب في الشعر والرواية البوليسية، والمسرحية ، كان يتقن اللغة الفرنسية، وألف بها مسرحية "سالومي" سنة 1896 م، قدمت بباريس، وآخر أعماله هي مجموعته الشعرية "موسم زنزانة ريدرينغ" (1898 م)، كتبها خلال فترة سجنه. عاش أواخر أيامه في فرنسا وتوفي بها، كتب "البلبل والوردة" أو "العندليب والوردة" بين (1888 و 1891 )، وخلاصة القصة؛ أن تلميذا  أراد أن يقدم وردة لحبيبته، لترقص معه في حفلة الأمير، فلم يجد في حديقته وردة حمراء، فسمعه العندليب، الذي أدرك سر حزن العاشق الشاب،دون الحشرات والحيوانات والزهور. طار العصفور باحثا إلى أن وجد شجرة ورودها حمراء. اِشترطت عليه هده الأخيرة ، أن يضحي بحياته من أجل الوردة ؛ بأن يغني طوال الليل، تحت ضوء القمر ويلطخها بدمه، بوضع صدره على شوكة، ويضغط إلى أن يسقيه بدمها. وكذلك كان؛ فماذا يساوي قلب عندليب، مقابل قلب انسان ؟ فضحى العصفور بحياته مقابل حصول الشاب على وردة حمراء يقدمها لحبيبته، ومقابل أن يكون عاشقا حقيقيا، إلا أن الفتاة، لم تول أي اهتمام للشاب حين قدم لها الوردة، لأن حفيد الملك أرسل لها مجوهرات، فرمى التلميذ بالوردة إلى الشارع لتدوسها عربة خيل كانت مارة من هناك، وليقرر دراسة الفلسفة والميتافيزيقا . ويبدو من القصة أن وايلد وظفها من أجل تأكيد مذهبه "الفن للفن"، فموت البلبل كان تضحية لإرضاء الشاب، في حين أن البلبل كانت تضحيته من أجل أن يستمر الشاب في العشق الصافي، فهذا الشاب الذي كان مسجى على العشب يذرف الدموع، لأن حبيبته لن ترقص معه إن لم يقدم لها وردة حمراء، كان من المنتظر أن يأخذ هده التضحية بعين الاعتبار، لكن ما حدث هو نوع من اللامبالاة ، فالحكاية محكومة بنوع من العبث ؛ أي تخلو من الاعتراف بالجميل، اعتراف الشاب بجميل البلبل واعتراف الفتاة بجميل الشاب، وذلك ما لم يحدث، ثم موقف الشاب الذي رمى بالوردة لتدوسها حوافر الخيل وكأن شيئا لم يحدث :"غبي هو الحب…لا يستعمل في نصف ما نستعمل فيه المنطق"  .
أما في التراث الإسلامي، فقد وظفت القصة توظيفا رمزيا راقيا، خاصة عند المتصوفة. ويشير الأستاد "أ.د.غريغوري" إلى أن البلبل والوردة من أهم العناصر الصوفية والشعرية ، فالبلبل وقع في حب الوردة وهي زرقاء، وكان أخرسا، ولما اقترب منها حيته، فلم يرد التحية، مما أغضب الوردة، فلم تكلمه، فأحزنه ذلك، ودعا الخالق أن يمنحه صوتا، فاستجاب الله لدعائه ووهبه أجمل صوت في الكون. عاد إلى الوردة وغنى لها تعبيرا عن حبه، لكن هذه الأخير لم تعره سمعا، فانسحب كسير القلب. شعرت الوردة بالندم. في الصباح، عاد البلبل فرأى الدموع على أوراقها فأسرع لمعانقتها، لكن أشواكها طعنته فمات فانساح دمه عليها واصبحت حمراء."هذه هي الأسطورة التي أترعت خيال الكثير من من الشعراء الفرس والأتراك والعرب والهنود، الدين خلفوا أبياتا خالدة مكرسة للحب والجمال والموت المجسمة في الثنائي؛ البلبل والوردة" . والاختلاف بين القصتين، هو أنه عند وايلد البلبل ضحى من أجل الشاب، وفي الثانية البلبل كان عاشقا للوردة، وموته نتج عن هذا العشق، مع الاتفاق على أن دم البلبل هو الذي جعل الوردة حمراء.
ويفسر النورسي ، رحمه الله ،:"الحب الذي يشد البلبل إلى الوردة، كرمز للمحبة التي تربط كل كائنات الله التي تفرح بالهدايا التي وهبها لغيرها، مثلما يفرح البلبل بالجمال الذي وهبه الله للوردة."  فالبلبل في نظره ليس إلا مظهر من مظاهر تمجيد الله…

أما فيما يخص البشرية، فالمختار بلبلا لها هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم." فالنورسي، كتب نص البلبل للتعبير عن معنى من أجمل المعاني في الوجود
ومن الذين كتبوا عن البلبل والوردة، من الشعراء، غوته، ومعروف الرصافي، وإبراهيم طوقان وغيرهم.

ليست هناك تعليقات: